ثلاثون سنة وأكثر، عملت ايران بجدّ لتعيد مجدها الشرق أوسطي، كل الأساليب على اختلافاتها وتناقضاتها استخدمتها الجمهورية الإسلامية في سبيل تحقيق أهدافها وعلى رأسها تصدير الثورة، البراغماتية إحدى الأدوات، والتقية آداة أخرى، وغير ذلك من أدوات القوة والشعبوية والعزف على الأوتار المذهبية والممانعتية، بعد كل هذه السنوات من البذور التي زرعتها إيران في دول المنطقة، حان بالنسبة إليها وقت قطاف الثمار.
نجحت إيران في السنوات الماضية بالسيطرة على اجزاء من المنطقة العربية، لكن الحدث السوري قلب الموازين وخلط الأوراق فلجأت الى سياسة الهروب إلى الأمام مكابرة، فوصلت إلى محاصرة نفسها بنفسها، فبدأ نهج تمديد سنوات الخراب بالتأثير سلباً عليها. تسيطر إيران على أربع دول عربية، عملياً تحتلّ اربع عواصم بغداد، بيروت، دمشق وصنعاء، لكن هل بإستطاعة طهران المحافظة على "مستعمراتها"؟
في العراق فرض واقع جديد نفسه عليها كما على المجتمع الدولي، أجبرها على التراجع والتنازل سياسياً، في سوريا، كل ما يجري هو استنزاف لها ولإقتصادها ولإحد أقوى أذرعها العسكرية أي حزب الله، أما في اليمن الذي يحرز الحوثيون تقدّماً عسكرياً في مدنه الرئيسية وصولاً الى البحر الأحمر، فلا بد من تذكر أن هذا البلد عصى على أعتى القوى المحتلة، فشل العثمانيون في السيطرة عليه، كما فشل البريطانيون، ولم ينهك وضع مشرذم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر غير اليمن، فماذا تفعل إيران؟
لم تقدم إيران على بدء مفاوضات مع الدول الست ثم مع الولايات المتحدة الأميركية إلا بعد اختناق اقتصادها، أجبرتها العقوبات على التنازل والذهاب إلى المفاوضات، ومنذ انطلاق هذه المفاوضات حول المشروع النووي الإيراني، سارت اللعبة السياسية والعسكرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة ولاية الفقيه كلعبة الشطرنج، المشهد الآن من باكستان الى العراق وسورية فاليمن والسعودية يؤكد ذلك. تتقدم في مكان وتتراجع في آخر على حساب تقدم خصومها.
حين بلغت العقوبات الغربية على إيران أقسى مراحلها، أمعنت طهران في التهديد بإقفال مضيق هرمز، لأيام وأشهر ولا ينفك المسؤولون الإيرانيون عن التهديد بإقفاله، طبعاً لم تتمّ الخطوة وبعد كلّ مكابرة ومعاندة تنازلت ايران وجلست الى طاولة المفاوضات، اليوم تلوّح طهران عبر أنصار الله الذين يزحفون في اليمن بالسيطرة على مضيق باب المندب. هذا التلويح هو في إطار الحروب الكلامية لتعزيز الشروط، إذ تعرف طهران أن أي خطوة في باب المندب تهدد الأمن الإستراتيجي العالمي وبحال الإقدام عليها فيعني عودة العلاقات الإيرانية الغربية إلى نقطة الصفر وهو ما لا قدرة للسلطات الإيرانية على تحمّله. وما السكوت السعودي عن هذه الحماسة الإيرانية في اليمن سوى نصب للشرك، تخلّصت السعودية من الإخوان وأغرقت ايران في رمال متحرّكة أخرى لا قدرة لأحد على السيطرة عليها وعلى مذاهبها وقبائلها.
منذ بدء الربيع العربي سقط القناع الذي لبسته إيران، تدخّلها وحزب الله في سوريا إلى جانب النظام أسقط عنها دورها المناصر للمحرومين والمستضعفين، ومع تقديمها التنازلات لـ"الشيطان الأكبر" للوصول إلى حلّ نووي سقطت ستارة الممانعة والمقاومة، فقدت إيران بذلك معظم أوراق قوتها الدعائية، وبعد الإتفاق على تسوية تقضي بإزاحة نوري المالكي في العراق وما تبعها من هدوء بين الخصوم وزيارة نائب وزير الخارجية الإيراني إلى السعودية، عاد التوتر بين البلدين، ضربت إيران في اليمن، سكتت السعودية، مراهنة على الإستنزاف السوري واليمني للقوة الإيرانية، لم تدرك إدارة الرئيس روحاني المأزق الذي وقعت به في اليمن، بينما تدرك أنها تستنزف في سوريا، لكنها لها باع طويل وخبرة في التكتيك البعيد المدى بتفتيت دول وزرع بؤر توتر على كامل مساحة الشرق الأوسط، وربما لهذا السبب كان تصريح أمير عبد اللهيان بأن القضاء على نظام الأسد لا يصب بمصلحة أمن اسرائيل، وهو قد يكون آخر أوراق الجمهورية الاسلامية والتي تعمدت ان تلعبها فوق الطاولة هذه المرة وليس كما جرت العادة، لم تعد طهران قادرة على ضمان استمرار النظام السوري فتستجدي ذلك من واشنطن بعد الفشل بإشراكه في التحالف لمكافحة الإرهاب.