أثار إطلاق النار أمس على دورية للجيش على إحدى طرق عكار واستشهاد أحد عناصره أمس، المزيد من التساؤلات مجدداً عن مستقبل الوضع الأمني في الشمال عموماً من جهة، وعن طبيعة التسوية التي تم الإيحاء خلال الأيام القليلة الماضية بأنها أنجزت وطوت مسألة المطلوبين الذين تحصّنوا منذ فترة في مسجد عبدالله بن مسعود في محلة باب التبانة أشهر الأحياء الطرابلسية القديمة.

 

لم يعد خافياً أن ثمة من قارب هذه المسألة على أساس أنها عصارة صفقة نسجت خيوطها باتقان وشارك فيها مسؤولون بهدف تخفيف الإحراج عن جهات سياسية بعينها مطلوب منها اتخاذ موقف من جهة، وبغية إخراج طرابلس من الضوء وطي صفحة أنها تؤوي حالات تمرّد وإرهاب مطلوبة للعدالة بموجب استنابات قضائية من جهة أخرى، فضلاً عن أنها قد تتحوّل فاتحة عهد جديد يخلو من الغليان والاحتقان واحتمالات التصادم مع الجيش والقوى الأمنية.

 

لكن ثمة مصادر أمنية رسمية لم "تقبض" منذ البداية هذا الأمر برمته وظلّت مقيمة على شكها وحذرها لاعتبارات عدة أبرزها:

 

1 - أن التقارير الأمنية الواردة الى قيادات معنية في المؤسسة العسكرية أظهرت بما لا يقبل الشك أن الذين كانوا يتخذون من المسجد المذكور أعلاه في باب التبانة حصناً وملاذاً، غادروه فعلاً ولكن الى مسافة بضع مئات من الأمتار خلفه مباشرة، وأن كل المعلومات التي روّجها البعض عن أنهم غادروا الى الخارج ليس ثمة ما يؤكدها، وهو ما من شأنه أن يبقي الأمور في دائرة الخطر.

 

2 - استمرار عمليات إطلاق النار والقنابل على دوريات الجيش ومواقعه في طرابلس.

 

3 - إن قيادة المؤسسة العسكرية تعلم يقيناً أن ما جرى هو في جوهره محاولة للالتفاف على قرار كانت هذه القيادة قد اتخذته بحزم وإصرار وشرعت في تنفيذه مؤداه التعامل بالنار والقوة مع مربعات أمنية تحاول أن تفرض نفسها أمراً واقعاً في طرابلس في موازاة حضور الجيش.

 

4 - وعلى العموم أرادت هذه القوى أن تخفض على طريقتها منسوب إجواء التشنج الناجمة عن ظهورها، وأن تصرف العيون الشاخصة نحوها، وفي خاطرها هدف مضمر هو أن يخفض الجيش مستوى إجراءاته وتدابيره الأمنية المشددة ورصده وملاحقته للمجموعات والخلايا الارهابية في الشمال والبقاع خصوصاً. وبمعنى آخر، أرادت هذه القوى إمرار مسرحية تعطيها بعض الوقت وبعض حرية الحركة نسجاً على منوال تجارب سابقة لكي يتسنى لها العودة الى سيرتها السابقة ساعة ترى الظروف مناسبة.

 

5 - هكذا وبخلاف كل رهانات المجموعات الارهابية وحساباتها، فإن الجيش ظل مستمراً على الوتيرة نفسها في عمليات الملاحقة سواء في الشمال أو في البقاع وتحديداً في عرسال. وعليه فإن المصادر عينها تنطلق من كل هذه الوقائع والمعطيات الميدانية والسياسية لتخرج باستنتاج فحواه أن إطلاق النار أخيراً على دورية الجيش على مفترق بلدة البيرة العكارية وقتل الجندي، إنما يمكن اعتباره عملية ثأر ورد فعل على اجراءات الجيش المشددة وعلى ما أنجزه خلال الساعات والأيام الماضية في مجال ملاحقة الإرهابيين أينما كانوا. وهو، من جهة أخرى، رسالة من الإرهاب الى من يعنيهم الأمر وفي مقدمهم الجيش جوهرها أننا على استعداد للعودة الى أسلوب حرب العصابات التي بدأت عملياً منذ مطلع تموز الماضي، وهو ما أدى الى سقوط أربعة شهداء من الجيش وجرح أكثر من عشرة آخرين وفق احصاءات الجيش. والأبعد من ذلك أن الارهابيين يعترضون بفعلهم هذا على رفض الجيش والقيادات السياسية المعنية التجاوب مع صيغة شاؤوا أن يجعلوا منها أمراً واقعاً، وهي التعايش مع حراك الإرهابيين في مناطق معيّنة وغضّ الطرف عما هم بصدده من نشاطات وأدوار كلفوا القيام بها، وهي صيغة جرّبت في السابق وتحديداً منذ الأشهر الأولى لاشتعال فتيل الأحداث في الساحة السورية، وأدت كما بات معلوماً الى تدفيع المؤسسة العسكرية أثماناً مكلفة من أفرادها وهيبتها وموقعها. وأبرز مثال حي على ذلك ما حصل ويحصل في عرسال وجرودها ومحيطها منذ ما يقرب من شهرين، فضلاً عن أن البلاد برمتها دفعت وما برحت من استقرارها الذي بقي هشاً يتأرجح بين هاجس الذهاب نحو الانفجار الواسع وبين جهود الضبط الجبارة. وعليه فإن السؤال المطروح الآن هو: هل لا تزال ثمة فرصة لتكرار هذه الصيغة والتعايش معها؟ وفقاً لتقديرات المعنيين من داخل المؤسسة العسكرية ومن خارجها أنه لم يعد بالإمكان تكرار التجربة السابقة، خصوصاً بعدما ارتفعت الأصوات الوازنة، ومنها صوت رئيس مجلس النواب نبيه بري، عن خطورة البيئات الحاضنة للإرهاب والتي لم يعد بالإمكان السكوت عنها أو تجاهل خطورتها، فضلاً عن أن الحرب على الإرهاب ومواجهته صارت حرباً عامة وتكاد تصير كونية ولبنان انخرط فيها بشكل أو بآخر.