بات لنا جميعاً رأي في قضيّة الطفلة سيلين راكان (4 سنوات) التي توفيت «في ظروف غامضة». جميعنا محقّقون، وأطباء شرعيّون، ومختصّون في الأدلّة الجنائيّة، وقضاة، ومحامون. ذلك ما تفترضه المعالجة المطروحة للقضيّة في معظم وسائل الإعلام، خصوصاً بعدما بادر والدا الطفلة إلى إتاحة شريط كاميرات المراقبة في منزلهما، للتداول.
مساء الاثنين، كسر ياسر راكان وسحر نحلة، الحظر الإعلامي الذي فرضاه على نفسيهما منذ وفاة ابنتهما الأسبوع الماضي، وأطلا للمرّة الأولى في برنامج «1554» مع طوني خليفة. ومساء أمس الأول الثلاثاء، عرض زافين قيومجيان في برنامج «بلا طول سيرة» على شاشة «المستقبل» تقريراً من منزل العائلة، شرح فيه الأب ملابسات القضيّة، بشكل متطابق تقريباً مع ما ورد في حديثه لشاشة «أم تي في». تضمّنت الحلقتان عرضاً لجزء بسيط من محتوى كاميرات المراقبة، يظهر تحرّكات عاملة المنزل الإثيوبيّة بونزاي، خلال الوقت المفترض لوفاة الطفلة. وبسهولة غريبة، تحوّل البرنامجان إلى ما يشبه المحاكمة العلنيّة والغيابيّة للعاملة، وهي المشتبه بها الوحيدة في القضيّة إلى الآن، وكانت تعمل في منزل آل راكان منذ أربع سنوات.
إلى جانب الغموض المحيط بالقضيّة، والبلبلة المثارة حول سبب الوفاة سواء أكان خنقاً على يد عاملة المنزل، كما بيّنت التحقيقات الأوليّة، أو بسبب لقاح فاسد كما افترض والد الطفلة في روايته الأولى، جاء الكشف عن أشرطة المراقبة، ليزيد من الأسئلة، ويعزّز من الدور السلبي للإعلام في هذه القضيّة.
يقول مصدر أمني على علم بمجريات التحقيق لـ«السفير» إنّ فيديو أشرطة المراقبة الأصلي يمتدّ لساعتين، وأنّه لا يوجد عائق قانوني أمام عرض مقتطفات منه على التلفزيون، لأنّه لم يكن من بين المضبوطات في القضيّة، كما أنّه ملك للعائلة، ويحقّ لها التصرّف به كما تشاء. ويقول المصدر ذاته، إنّ الخادمة بريئة حتى تثبت إدانتها، إلا أنّ عرض الفيديو على الشاشة لم يضرّ بسير التحقيق، بل على العكس، ساهم بإزالة بعض الشكوك.
بالرغم من اعتراف الخادمة بارتكاب الجريمة، إلا أنها ما تزال قادرة على التراجع عن أقوالها أمام القاضي، خلال المحاكمة. وتقول المحامية نادين فرغل، إنّ «فرضيّة الطعم الفاسد مستبعدة فعلاً، لأنّ الطعم لا يقتل، كما أنّه لم يسجّل حالات وفاة مشابهة في العيادة نفسها. ذلك ما يجعل فرضيّة ارتكاب الخادمة للجريمة، فرضيّة محتملة، لكنّ ذلك لا يمكن إثباته من دون دليل، وخصوصاً تقرير الطبيب الشرعي». لم يكشف تقرير الطبيب الشرعي الأوّلي، أيّ علامات اختناق على الطفلة، لذلك طرحت إمكانيّة تشريح الجثّة من جديد. وتلفت فرغل إلى أنّ «الصور التي عرضت على التلفزيون، لا تثبت بالضرورة ارتكاب الخادمة للجريمة، إذ أنّ هناك حاجة لأدلّة قاطعة أخرى. مع العلم أنّ إفادة الخادمة لم تأخذ بوجود مترجم محلّف، ولم يحفظ حقّها بالدفاع عن نفسها»، مشيرةً إلى أنّ عرض الصور لا يتعارض مع القانون، إذ أنّه لم يتمّ بطريقة تؤذي الضحيّة.
من البديهي أن يهتمّ الإعلام بملفّ سيلين راكان، خصوصاً أنّه بدأ كفضيحة صحيّة، ليتحوّل إلى احتمال جريمة قتل مريبة. كثر ينتظرون الإجابات عن الأسئلة المحيطة بالقضيّة، لكن من يمنح الإعلام حقّ الوصول إلى استنتاجات قد تكون مضللة؟ طوني خليفة افتتح حديثه مع والدي سيلين بالقول: «حسيت أنّه كلّ واحد منّا ممكن يكون بخطر»، في إشارة إلى «الخطر الداهم» المتمثّل بعاملات المنازل الأجنبيّات، واللواتي يجب على أمهات لبنان، التعاطي معهنّ من الآن فصاعداً كـ«قنابل موقوتة».
من جهته، ركّز زافين على الجانب الصحّي للقضية، واستضاف رئيس لجنة الصحة في المجلس النيابي عاطف مجدلاني ليوضح أنّ اللقاح الفاسد لا يتسبّب بالوفاة. هذه المعلومة القيّمة، بقيت غائبة عن التداول، وتجنّبت وسائل الإعلام التدقيق فيها فور انكشاف ملفّ وفاة سيلين للرأي العام. ولو لم تتسع التحقيقات، لكان جزء عريض من اللبنانيين بقي جاهلاً بحقيقة أنّ اللقاحات الفاسدة لا تسبب الموت! هذا بالإضافة إلى تعريض طبيب لا علاقة له بالقضيّة للإدانة، بناءً على فرضيّة خاطئة في الأصل. هذا إن أغفلنا تعاطي الجهات الرسميّة المعنيّة مع الأمر، بمنطق التستير، والدفاع عن سمعة الطبّ والأطباء، بالرغم من أنّ الأمثلة عن أخطاء طبيّة في لبنان، لا تعدّ ولا تحصى.
من ناحية أخرى، أشار تقرير «بلا طول سيرة» المصوّر داخل منزل آل راكان، إلى أنّ العاملة المشتبه بها، كانت تعامل كواحدة من أفراد المنزل. دخلت الكاميرا إلى غرفتها، لتصوّر سريرها وأغراضها الشخصيّة، وتخبرنا أنّ «كلّ شيء مؤمّن لها». تلخّص هذه العبارة، مآسي عدّة، في النزعة إلى «تشييء» العاملة الأجنبيّة. مثلاً، هل يندرج محامي دفاع من ضمن «كلّ الأشياء» المؤمّنة للمشتبه بها؟ وإن لم يكن «كلّ شيء مؤمّناً لها»، هل كان ذلك ليعطيها مثلاً دافعاً لارتكاب جريمة قتل؟ وهل تختصر بونزاي بشخصها جميع العاملات الأجنبيّات، سواء كانت بريئة أم مدانة؟ ولماذا الاستراش في الدفاع عن سمعة وزارة الصحّة ونقابة الأطباء، والاستسهال في تجريم الجـاليات الأجنـبيّة العاملة على الأراضي اللبنانيّة؟
كلّ ذلك النقاش، للأسف، لن يقدّم محاكمة عادلة للعاملة تكشف دوافعها وما إذا كانت هي فعلاً من قتل سيلين راكان، ولن يردّ للطبيب حقّه بعد تشويه سمعته بسبب التسرّع في إطلاق الأحكام على الشاشات... والأهمّ أنّ كلّ تلك المحاكمات الإعلاميّة زادت من الغموض حول مصير سيلين، وساهمت في تعميق اللاعدالة اللاحقة بابنة الأربع سنوات.