لا أوهام لدى أحد في أنّ «داعش» ستهزم العالم وتسود في المنطقة، لكنّ الانقسام الحاصل داخل «التحالف الدولي» الذي أعلن الحرب عليها، مَردُّه خلاف على الأهداف المرسومة لِما بعد هذه الحرب ومَن سيَرث «الداعشيّين» وكلّ مَن يشبههم.
لا يزال التحالف الدولي ضد «داعش» وأخواتها مُسربلاً بمَعوقات جمّة، بل بالخلافات بين أركانه، في ظلّ تصريحات مُستغربة تصدر عن مسؤولين أميركيّين وغربيّين يؤكدون فيها أنّ المعركة ضدّ هذا التنظيم المتطرّف «ستَستغرق سنوات»، في وقت كانت الولايات المتّحدة الأميركية وحلفاؤها قد أسقطوا في الماضي القريب أنظمة وجيوشها في أيّام وأسابيع، مثلما حصل مع نظام صدّام حسين في العراق عام 2003 وقبله نظام «طالبان» في أفغانستان عام 2001.وما يثير الاستغراب أيضاً أنّ القوى المتحالفة ضدّ «داعش»، كانت في غالبيتها وراء نشوء هذه التنظيمات المتطرّفة، أو على الاقلّ غَضّت الطرف عنها ثمّ مَوّلتها وسلّحتها لتخوض معارك نيابةً عنها ضدّ أنظمة تُناصِبها العداء، إلى درجة أنّ قِلّة من دول التحالف يمكن ألّا تكون متورطة مباشرة في دعم هذه التنظيمات.
ولعلّ ما يؤكد وجود الخلاف بين أركان التحالف، هو ذلك التردّد التركي في المشاركة في الحرب، أو على الاقلّ تقديم تسهيلات لوجستية لها، من مِثل السماح للتحالف باستخدام قاعدة «أنجرليك» التي كان قد استخدمها طيران التحالف الدولي في الحرب على نظام صدام حسين.
وعلى رغم حصول اردوغان على قرار البرلمان التركي الذي يُتيح له التدخّل العسكري المباشَر في سوريا، وفيما أعلن مسؤول اميركي انّ انقرة وافقت على فتح «انجرليك» أمام الطيران الحربي الاميركي، سارعَ المسؤولون الاتراك الى نَفي هذه الموافقة في وقت تستنفر قوّاتهم على الحدود قُبالة مدينة عين عرب (كوباني) السورية الكردية مُتفرّجةً على هجمات مسلّحي «داعش» عليها، من دون أن توجِّه أيّ قذائف تحذيريّة لمَنعهم من السيطرة عليها وارتكاب مجازر في حَقّ سكّانها الأكراد الذين نزحَ الآلاف منهم إلى تركيا.
وثمّة من يقول إنّ «الجمود» التركي قُبالَة «كوباني» مَردّه الى أسباب عدة:
الاوّل، تردّد الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان في المشاركة عسكريّاً في التحالف ضدّ «داعش»، وعدم اتّفاقه مع أركانه، ولا سيما منهم الولايات المتّحدة الاميركيّة، على ما ستغنَمه تركيا من هذه الحرب سياسيّاً وإقليميّاً.
أمّا السبب الثاني، فهو أنّ أردوغان لا يُريد من الحرب إنهاء «داعش» فقط، بل إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد ايضاً، وهو يلتقي في هذا الموقف مع أطراف آخرين في التحالف، في حين أنّ واشنطن وحلفاءها الغربيّين لا يؤيّدون ذلك، بل يريدون الدخول من القضاء على «داعش» إلى تسوية مع النظام، بحيث تؤلّف حكومة سوريّة جديدة تُشارك فيها المعارضة التي يسمّونها «معتدلة»، وتكون ذات صلاحيّات تنفيذيّة واسعة.
على أنّ بعض المُطّلعين يقولون إنّ من أسباب تَردّد أردوغان أيضاً، تخوُّفه من تدخّل روسي وإيراني عسكري وغير عسكري يُمكن أن يُغرقه في المستنقع السوري طويلاً، بما يهدّد حكم حزبه «العدالة والتنمية» الإخواني، علماً أنّ مِن مطالبه وشروطه أن تكون لـ«الإخوان المسلمين» السوريّين حصّة كبيرة في أيّ نظام، أو حَلّ سياسي للأزمة السوريّة، وهو ما يشير في هذا السياق إلى أنّ الخلاف الذي يعصف بالتحالف، هو خلاف بين فريق يريد لـ«المعارضة السورية المعتدلة» أن تَرِث «داعش»، وهذا الفريق تتصدّره الولايات المتّحدة الأميركية والدول الغربيّة والمملكة العربيّة السعودية، وفريق يُريد لـ«الاخوان المسلمين» أن يَرثوا «داعش»، وهذا الفريق تتصدّره تركيا وقطر، وهما داعمتان أساسيّتان لـ«الإخوان» ولـ«داعش»، واللتان مُنيَتا بهزيمة كبيرة نتيجة سقوط حكم «الإخوان» في مصر صيف 2013.
وإلى ذلك كلّه، فإنّ التحالف الدولي لم يَحسم أمره في أن تكون حربه على «داعش» شاملة وحاسمة في العراق وسوريا على حَدّ سواء، أو اقتصارها على «داعش» العراقيّة فقط، إذ لا يزال بعض أركانه يُفضّل الفصل بين «داعش» السوريّة و«داعش» العراقيّة التي لا يرون ضيراً في إنهائها بما يُرسِّخ الحَلّ السياسي الذي تَحقّق بإزاحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن رئاسة الحكومة التي هي السلطة التنفيذية في بلاد ما بين النهرين، وتأليف حكومة الوحدة الوطنية برئاسة حيدر العبادي، وهو حَلّ وافق عليه الجميع، ولا سيّما منهم طهران والرياض التي كان تأليف هذه الحكومة الجامعة مَطلَبها لإيجاد حَلّ سياسي متوازن للأزمة العراقية.
أمّا «داعش» السوريّة، فإنّ فريقاً من التحالف يُحبّذ الاستمرار في استثمارها واستخدامها في الحرب، بُغية إسقاط النظام، وأن يُكتَفى في التعامل معها بغارات جوّية موضعيّة وعمليّات برّية محدودة ومدروسة الأهداف ولا تُضعف قواها العسكريّة.
لكن من الواضح حتّى الآن أنّ موسكو وطهران وحلفاءهما الذين لا يرون ضَيراً في ضرب «داعش» بأيّ شكل من الأشكال، يقفون بالمرصاد لأيّ محاولة لِحَرف الحرب عن هدفها «الداعشيّ» لتستهدفَ النظام الذي يتمسّكون ببقائه، وألّا يتمّ أيّ حَلّ للأزمة إلّا بالتفاهم معه.
وفي هذا السياق، يعتقد المراقبون أنّ ما دفع بعض المسؤولين الأميركيّين إلى الحديث عن أنّ الحرب على «داعش» ستستمر سنوات، هو إدراكهم أنّ روسيا وإيران وحلفاءهما لن يسمحوا بأيّ ضربة أو هزيمة للنظام في سوريا، ما يعني أنّ واشنطن وحلفاءها سيبقون على «داعش» وأخواتها بشكل أو بآخر في سوريا حتّى تتواصل معركتهم ضدّ النظام.
ومن هنا، يُمكن فَهم سبب توقّف الحشد العسكري التركي على الحدود قبالة كوباني، إذ ربّما يريد أردوغان لـ«داعش» السيطرة على هذه المدينة الكرديّة التي كانت شهدت أضخم تظاهرات المُعارضة السياسيّة السوريّة قبلَ تحوّلها معارضة مسلّحة ومُتطرّفة تتصَدرها «داعش» و»جبهة النُصرة» وأخواتهما.
المُتفائلون يقولون في هذه المرحلة إنّ المنطقة تشهد كباشاً حادّاً، في وقت لم تَتعدّ الحرب على «داعش» القصفَ الجَوّي وأحياناً البحريّ. ويرون أنّ هناك خَطّاً بيانيّاً وُضِعَ لمُستقبل المنطقة يتعرّض لانتكاسات من هنا أو من هناك، غير أنّ عروض تسويات تُبحَث تحت الطاولة وتُشارِك فيها روسيا وإيران، لكنّها لم تَنضج بعد.