لاحظ الزميل سامر فرنجيّة (ملحق «تيّارات»، «الحياة»، الأحد الماضي) عمليّة انتقال تتعرّض لها منطقتنا، من زمن القضايا إلى زمن البشر، قارئاً هذا الانتقال في ملاحم النزوح والتهجير القسريّ العربيّة. فالملحمة الفلسطينيّة قضيّة لا يتمّ معناها إلاّ بالثورة والتحرير اللذين وحدهما يوفّران «عودة» الذين نزحوا، والرجوع «يوماً إلى حيّنا». أمّا اليوم، فلا تقيم القضايا في الملحمة السوريّة إلاّ في الحدّ الأدنى. صحيحٌ أنّ أنصار الثورة السوريّة يؤكّدون على دور بشّار الأسد ونظامه في تهجير النازحين، فيما يؤكّد النظام وأبواقه على دور «الجماعات الإرهابيّة المسلّحة» في ذلك. لكنّ هذا التسييس يقبع على هوامش المسائل الفعليّة للنزوح السوريّ ولا يحتلّ إلاّ القليل ممّا تحتلّه مسائل الغذاء والماء والملبس والإغاثة والإقامة وتعاطي البيئات المستقبلة معهم. هنا، لا نقع إلاّ لماماً على أطفال يحملون البنادق، فيما الأطفال الذين نراهم بحاجة إلى ما يقيهم البرد والعراء ولا يحوجهم إلى التسوّل.
والحال أنّ هذا الانتقال إلى «بشر من دون قضايا» يكاد، في تتالي الأحقاب ومضامينها، أن يكون ردّاً على طور «القضايا من دون بشر». ذاك أنّ الأنظمة العسكريّة والحركات الراديكاليّة نهجت، منذ الخمسينات من القرن الماضي، نهج تفريغ البشر من المعاني وإسباغ هذه المعاني على القضايا التي باستمرارها يستمرّ واقع الحال، أي بقاء الأنظمة وامتداداتها. وبالفعل كان مطلوباً أن تُسبَغ الجوهريّة والديمومة على القضيّة الفلسطينيّة خصوصاً، وأن يستحيل حلّها بالاتّكال على الصلف الإسرائيليّ، بقدر ما كان مطلوباً ألاّ يكون لحياة البشر ولآرائهم دور يشوّش على القضايا إيّاها.
وتحت اليافطة الشهيرة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» استبيح كلّ شيء. وكان أن تجسّدت إحدى ذرى السلوك هذا في ما نُقل عن الراحل حافظ الأسد أيّام وجود القوّات المتعدّدة الجنسيّة في بيروت. فقد كان يقول إنّه أقوى من الرئيس الأميركيّ يومذاك، رونالد ريغان، لأنّ مقتل جنديّ أميركيّ في لبنان يحرّك الرأي العامّ الأميركيّ ضدّ رئيسه، فيما لا يحصل الشيء نفسه ضدّ الأسد في سوريّة، بغضّ النظر عن أعداد السوريّين الذين قد يُقتلون. وفي هذا المعنى ذهب بعض النبهاء إلى أنّ ما حمى الجنود السوريّين في لبنان هو أنّ موتهم لا يغيّر شيئاً في قرارات حاكمهم. فما دام أنّ هذا الحاكم رخّص موتهم، فإنّ خصومه استرخصوا عليهم القتل.
ونعرف بعض الدرر الثمينة في هذه التجربة المُرّة والمديدة، كأن يعد الرئيس العراقيّ الراحل عبدالرحمن عارف الجنود العراقيّين المتوجّهين إلى الجبهة السوريّة في 1967 بجعلهم «علفاً للمدافع»، أو أن يباع معمّر القذّافي حزبيّين لبنانيّين كي يقاتلوا ملحقين بجيشه المتصدّع في التشاد.
وبغضّ النظر عن المصائر التعيسة التي انتهت إليها الثورات العربيّة، فإنّ بداياتها رفعت البشر في وجه القضايا، فأحلّت الحرّيّة والخبز في صدارة الاهتمام والتركيز. وإذ صعدت قوى الإسلام السياسيّ وابتلعت الثورات، فإنّها أعادت الأولويّة للقضايا، وإن اختلفت عناوينها. أمّا البشر فباتوا، مرّة أخرى، يعانون هجمة التوحّش بصيغ وأسماء أخرى.
إلاّ أنّ الذين وجدوا سبيلهم إلى مغادرة أرض السلطتين، سلطة الأسد وسلطة «داعش»، فنراهم ينتقمون بطريقتهم من زمن مديد ساده استبعاد البشر وتظهير القضايا. فهم يواجهون مصاعب الحياة ويسمّونها، للمرّة الأولى، بأسمائها الفعليّة.