يعتقد محللون استراتيجيون أنّ الأهمّ من العملية النوعية التي نفّذها حزب الله ضد دبّابة إسرائيلية في مزارع شبعا هو تَبنّيه إيّاها علناً، بعدما نأى بنفسه منذ سنوات عن هذا الاسلوب في التعاطي مع الاحتلال الاسرائيلي.
ويعزو هؤلاء المحللون الاستراتيجيون أهمية هذا الاعلان الى أسباب عدة، أبرزها:أولاً، انّ حزب الله يريد تذكير العالم كله، واللبنانيّين خصوصاً، بأنّ مزارع شبعا هي أرض محتلة، وانه ما دام هناك احتلال فلا بدّ من أن تكون هناك مقاومة، وانّ المقاومة في لبنان ما زالت تعتبر أنّ تحرير الأرض هو مهمّتها الرئيسية.
ثانياً، انّ حزب الله أراد أن يُعلن للبنانيّين خصوصاً، وللإسرائيليّين أيضاً ولبقية دوَل العالم، أنّ كلّ التهويل الاسرائيلي الذي بَلغَ سقوفاً مرتفعة في الآونة الاخيرة، خصوصاً بعد تهديد أحد جنرالات إسرائيل بإعادة لبنان 80 عاماً الى الوراء، لا يكلّف المقاومة في لبنان أكثر من عملية نوعية يُسارِع الاسرائيليون بعدها الى لَملمة أعلامهم وتصريحاتهم ويُبالغون في جهوزية حزب الله للمواجهة حتى لا يُطالِب أحد حكومة بنيامين نتنياهو بردّ عسكري.
ثالثاً، انّ هذه العملية جاءت مع تصاعد الحديث عن حزام أمني تريده اسرائيل يمتدّ من الجولان الى شبعا، وهو شريط أمني يتلاقى مع المنطقة العازلة التي تطالب بها تركيا في شمال سوريا.
ويعتقد المحللون الإستراتيجيون أنّ حزب الله أراد أن يُنذِر الحكومة الاسرائيلية بعدم اللعب في نار المناطق العازلة، فهو جاهز لتحويلها مناطق مُلتهبة في وجه الجيش الاسرائيلي وكلّ مَن يتعاون معه.
ولا ينسى المحللون التذكير بأنّ مشروع تقسيم العراق قد بدأ فعلياً قبل احتلاله بعشر سنوات، حين نجحت الولايات المتحدة الاميركية، ومِن خلفها إسرائيل، في استغلال نتائج حرب الخليج الثانية وتداعياتها لكي تفرض مناطق حَظر جوّي في شمال العراق وجنوبه.
وقد اعتبر كثيرون، يومها، أنّ هذه المناطق ستكون هي مسودّة مشروع التقسيم الواقعي للعراق على أساس التصنيفات المذهبية والعرقية التي أطلقها الاميركيون عشيّة احتلالهم العراق، ثم كَرّسوها في دستور لا يعترف بعراقيّين أو بعرب أو بمسلمين في العراق، بل يعترف بعراقيّين شيعة وسنّة وأكراداً وتركمان ومسيحيّين وإيزيديّين وصابئة.
ولا يعترف بعَرب في العراق، فالعرب بالنسبة اليه طوائف، أمّا الكرد والتركمان فقوميات ينبغي احترام حقوقها. وكذلك لا يعترف بمسلمين في العراق لأنه يعترف بكلّ الديانات الأخرى، وحين يأتي الأمر بالنسبة الى المسلمين يصبحون مذاهب وفِرقاً.
فحزب الله، حسب هؤلاء المحللين، يدرك تماماً انّ السيناريو العراقي مرشّح للتكرار في سوريا ولبنان. وهو بتصَدّيه للمناطق العازلة، سواء في جنوب سوريا ولبنان، وربما في شمال سوريا نفسه، إنما يتصدى لمشروع إلغاء الكيانات الوطنية في هذه المنطقة.
رابعاً، انّ حزب الله يريد أن يُعلِم كلّ مَن يهمّه الأمر أنه قادر على ان يحارب على جبهات عدة في الوقت نفسه، وقادر أيضاً على تحقيق إنجازات في كل جبهة يخوض فيها معركته.
وليس من المصادفة أبداً أن يختار توقيتاً لعمليّاته في منطقة السدّانة في مزارع شبعا بعد يوم من العملية التي شَنّها مسلّحو «داعش» و»النصرة» على مواقعه في جرود بريتال. وهو بهذا التوقيت يريد أن يقول للإسرائيليين وكلّ من يدور في فلكهم إنه لن يضرب ذَيل الأفعى، بل سيتوجّه الى الرأس نفسه في ما لَو أراد هذا الرأس أن يُحرّك ذَيله في غير منطقة من لبنان.
خامساً، انّ حزب الله، الذي شكّك منذ اللحظة الاولى في نيّات التحالف الدولي ضد «داعش» وأخواتها الذي يتسَتّر بمكافحة الارهاب ويحاول أن يُعيد قوّاته ونفوذه من جديد الى العراق وسوريا، واستطراداً الى لبنان، يريد أن يقول لهذا التحالف إنه جاهز لقَلب الطاولة في وجه الجميع، وانهم اذا اختاروا الحدود اللبنانية - السورية ملعباً لأدواتهم فهو يعرف جيداً كيف تُقاتِل الأرض مع أهلها.
ولذلك، لم يفاجأ المحللون الاستراتيجيون بالخطاب التراجعي الذي ساد الاعلام الاسرائيلي الرسمي وغير الرسمي، وهو خطاب يهوّل بمخاطر الردّ على حزب الله بعدما كان قبل أيام يهوّل بإعادة لبنان ثمانين عاماً الى الوراء. ويضيف المحللون أنفسهم انّ راسِمي خرائط المنطقة، ومَن يدور في فلكهم، كانوا سعداء جداً حين نجحوا في فتح جبهة جديدة في جرود بريتال ليُفاجَأوا في اليوم التالي بحزب الله يردّ في عقر دارهم ويستهدف الجيش الاسرائيلي في مزارع شبعا.
ويعتقد المحللون انّ عملية حزب الله قد أربَكَت واشنطن وحلفاءها ايضاً، خصوصاً في ظل تأخّرهم كلّ هذه الايام عن نَجدة مدينة عين عرب (كوباني) في شمال سوريا، واكتشفوا أنّ سقوط هذه المدينة الكردية الكبيرة في يَد «داعش»، فيما طائرات التحالف تملأ الأجواء السورية والعراقية، سيكون سقوطاً مدوّياً لمنطق هذا التحالف السياسي والعسكري والأخلاقي بعد أن مَلأ أركانه العالم ضجيجاً بأنهم ذاهبون الى سوريا والعراق لحماية المدنيّين وإنقاذ الأقليات الدينية والعرقية.
ووفق المراقبين، فإنّ حزب الله أثبتَ في عملية شبعا، لكثيرين، انه ما زال يُمسِك بالمبادرة، وأنه قادر عن تحويل كثير من المتغيّرات في المنطقة لمصلحة محور «المقاومة والممانعة» الذي، بلا شَكّ، شَعرَ أركانه بمزيد من القوّة وهم يَرون حزب الله ينفّذ عملية نوعية ويَتبنّاها علناً، ويُربك الإسرائيليين في مواجهتهم.
وحسب هؤلاء المحللين فإنّ أعداء محور المقاومة سيُدركون، بلا شك، انّ هناك «علاقة ما» بين هجوم حزب الله في مزارع شبعا وبين الهِبة الايرانية العسكرية التي وَصفَ مرجع عربي بارز قبول لبنان لها بأنه شَبيه بكَسر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لاحتكار السلاح عام 1955، حين عقد صفقة السلاح الشهيرة مع الاتحاد السوفياتي عبر تشيكوسلوفاكيا، وهي الصفقة التي كانت بمثابة تحوّل كبير في واقع العرب والعالم آنذاك.
في كلّ الحالات، يؤكّد المحللون الاستراتيجيون انّ عملية شبعا التي نفّذها حزب الله قد عَجّلت الاعلان الفرنسي عن أنّ صفقة السلاح للجيش اللبناني المموّلة بالهِبة السعودية قد تمّ إنجازها، وكان استقبال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للرئيس سعد الحريري قبل يومين في قصر الاليزيه إعلاناً فرنسياً بدعمه كممثّل للإسلام المعتدِل في لبنان.