إذا كان لنا أن نفترض داخل "العقل" الغربي (وهناك عقل غربي يدير العالم) فإن تأسيس الكيانين السوري والعراقي كان خطأً جغرافياً وبالتالي تاريخيّا.
نفترض ذلك لأن حصيلة التجربة التاريخية مع منطقتنا قد تدفع مراكز القرار في الغرب للاعتقاد أن هذين البلدين، المستجدَّيْن والمؤلَّفَيْن من مناطق عريقة في القدم الحضاري ومتخلّفة حضارياً في الزمن المعاصر، تحوّلا إلى كيانين مشاغبيْن على المنظومة النفطية الإسرائيليّة الثقافيّة التي أملت توزيع مصالح المنطقة منذ اكتشاف النفط الشرق أوسطي في حقول خوزستان (عربستان) الإيرانية عام 1911 ثم وعد بلفور عام 1917.
شَتمت الثقافةُ العربية التوحيدية طويلاً كلَّ النظم السياسية التي أدارت هذين الكيانين منذ العام 1921 انطلاقا من الملَكِيّة الهاشمية في العراق إلى الجمهورية بعد 1958 وفي سوريا منذ توحيد الدويلات الأربع في الثلاثينات إلى ستينات الانفصال فالبعث حتى اليوم واعتبرتها نظما مقصّرة إما في الصراع مع المشروع الصهيوني ثم مع إسرائيل بعد تأسيسها أو في تحقيق الديموقراطية. لكن رغم كل ثقافة "التقصير" التي ندّدت بالطبقات الحاكمة المتعاقبة على سوريا والعراق تبيّن للغرب أن هذين البلدين أنتجا نظماً مشاغبة لم تتقيّد في أحيان كثيرة بمنظومة التقسيم المشرقي وأنتجت أنواعاً من الوطنيات الخطرة ذات المطامح العابرة للحدود التي رسمها اتفاق سايكس بيكو المعدّل. وقد فعلت ذلك ليس فقط ُنظُمُ الديكتاتورية القومية بل أيضا النُظُم البرلمانية. فصديقٌ مخْلِصٌ ومؤمنٌ بالعلاقة مع بريطانيا كنوري السعيد سيقاتل مع عدنان مندريس التركي لمنع انضمام إسرائيل إلى حلف بغداد والتي - أي إسرائيل- كانت انتبهت إلى قدرات الجيش العراقي في حرب 1948 رغم كل التقصير السياسي العراقي الذي واكب دخوله الحرب. وقبل ذلك كانت بريطانيا قد عانت ما فيه الكفاية من انقلاب "العقداء الأربعة" في بغداد خلال الحرب العالمية الثانية واحتضانهم لرمز القضية الفلسطينية يومها الحاج أمين الحسيني. وفي سوريا ورغم الانفصال السريع عن الوحدة السورية المصرية بقي الكيان منتجاً لمغامرات عابرة للحدود أهمها المغامرة اللبنانية التي دامت حوالي ثلاثين عاما وخلال ذلك الحماقة الموصوفة لصدام حسين في الكويت.
إذا كان لنا أن نستقرئ ما يدور حالياً يمكن اعتبار الذي يجري معاقبةً غربيةً لهذين الكيانين اللذين بدل أن يكونا وليدين مريحيْن لتجزئة المشرق- الليفانت تبيّن أنهما تحوّلا إلى كيانين "بسماركيّين" أراد ديموقراطيّوهما ثم مستبدّوهما بناء مشاريع تغيير خرائط في المنطقة وعدم الاستكانة للصعود الإسرائيلي. فحتى في بغداد الحالية المليئة بالحذر من العرب بقيت كل أشكال العلاقة التواصلية مع إسرائيل محرّمة (باستثناء إقليم كردستان ذي السياق الخاص).
أخيراً عوقب الكيانان السوري والعراقي اللذان رغم وصول حلفاء بل حتى عملاء للغرب أحياناً إلى السلطة فيهما أظهرا في تاريخهما "القصير" على مدى تسعين عاماً أنهما غير منضبطين في خرائط المنطقة القائمة. عوقِبا أخيرا بتحويل مكشوف لأزماتهما الأمنية والسياسية والأيديولوجية إلى بيئة تفتيت وحروب دائمة تجعل الكثيرين في المنطقة والعالم (إسألوا المصريّين الذين نجحوا في منع انهيار دولتهم) يعتقدون أن ما يجري هو إنهاء لفكرة الكيانين نفسَيْهما بما يجعلهما حاليا بلدين سابقين كانا يُسمّيان العراق وسوريا.
لو نظرنا إلى المنطقة من خارجها، أي من منظور التحولات العلمية والاقتصادية والسياسية في العالم وأهمها ما بات يُسمّى "ثورة الغاز الصخري" وهو تعبير متداول تبنَّتْهُ مجلة "فورين أفيرز" التي نظمت محورا كاملاً حول الموضوع في عدد أيار حزيران 2014 فيما أسمته "فايننشال تايمز" في عدد 16تموز 2014 " الثورة الأميركية"... لو نظرنا إلى هذه "الثورة" وإلى البدائل اللانفطية الجديدة للطاقة لكان بإمكاننا أن نجازف بالسؤال هل ما يجري في العراق وسوريا من حيث تفكّك الكيانين بضغطٍ من داخلٍ وخارجٍ هو ربما، وبصورة من صور التحولات العالمية، دلالة على تراجع أهمية النفط في المنطقة بعكس الاعتقاد الشائع أنه دلالة على أهميّته وإعادة اقتسامه؟ فسوريا والعراق هما بالنتيجة تبعا لموازين نهاية الحرب العالميّة الأولى كيانان "نفطيّان" لا من حيث الثروة (العراق) فقط بل أيضا من حيث طرق التوزيع (سوريا).
في كتابه الموثّق "الجائزة" الذي يؤرّخ فيه دانيال ييرغن بدء اكتشاف النفط وتطور الصراع عليه في العالم ينقل الكاتب عن رسالة وجّهها وزير الحرب السير موريس هانكي إلى زميله في الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى وزير الخارجية آرثور بلفور ما يلي حرفيا: "النفط في الحرب المقبلة سيحتل مكان الفحم في هذه الحرب أو على الأقل سيحتل مكانا موازيا للفحم. الطاقة الكامنة الوحيدة والكبيرة للإمداد التي نستطيع جعلها تحت السيطرة البريطانية هي نفط فارس وأراضي ما بين النهرين دجلة والفرات" (Daniel Yergin
The Prize - منشورات Free Press سنة 2003 صفحة 188). كانت تلك رؤية صحيحة يومها من زاوية المصالح البريطانية فهل يحتمل اليوم أن يكون وزير أميركي اليوم قد قال لزميلٍ له أو لرئيسه باراك أوباما أن الصراع على النفط لن يكون في المستقبل هو الصراع الأساسي بين صراعات مصادر الطاقة؟
وهو سؤال، بالنتيجة، لا ينحصر هاجسه بالنفطين العراقي وجزئيا السوري بل بمستقبل موقع النفط السعودي الخليجي. فللتذكير ليس الخليجيون بعيدين عن هذا الهاجس. إذْ في الربيع المنصرم انعقدت في البحرين ندوة اقتصرت على نخب خليجية بحثت هذا الموضوع بالذات من ضمن مخاوف عبّرت عنها شخصيات ذات وزن حول خطر تراجع الموقع الاستراتيجي لدول مجلس التعاون بل حتى عن احتمال "استغناء" الولايات المتحدة عن نفط الخليج؟؟
روبرت د.كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" وإن كان يعتبر أن " الغاز الصخري" سيجعل الدول التي تملكه في وضع أفضل من الدول التي لا تملكه في القرن الحادي والعشرين فالكاتب أيضا يشدّد أنه لا وجود لبلد غير مهم في عصر تكنولوجيا المعلومات وذلك في خاتمة تحت عنوان ملفت يصلح لمنطقتنا ولاسيما المشرق: "التخوم تحُلُّ مكان الحدود" Frontiers replace Borders (الكتاب The Revenge of Geography منشورات Random House سنة 2012). يكتب كابلان أن "تآكل السلطة المركزية منذ بداية مرحلة ما بعد الحرب الباردة أدخل مفهوم الفوضى إلى الشرق الأوسط. الفوضى باعتبارها نتيجة ضعف أو تلاشي الهيكليات الدولتيّة السابقة..." وبحيث "أن الجماعات القبلية والدينية والأيديولوجية تتمتّع بسيادة فعلية على مساحة أرض معينة" (ص 353 ). وكتاب كابلان هذا هو امتداد لكتابه السابق الشهير "الفوضى الآتية" (The Coming Anarchy) .
لم يؤسِّس "سايكس بيكو" بلدَيْن فحسب بل أسّس مجتمَعَيْن أيضا. كان من الصعب تصوّر أن يعتبر أبناء القامشلي والرقة ودير الزور أنفسهم سوريين مثلما كان من الصعب على أبناء الموصل وأربيل أن يعتبروا أنفسهم عراقيّين قبل عام 1920. لقد كان ذلك تأسيسا لهويّات وطنية جديدة يومها.
بَلَدان يصعب في اللحظة الراهنة عدم اعتبارهما سابقيْن.