مدينون نحن لهاني فحص. أعطانا الكثير في حياته لنقوى على تحمّل غيابه. ككل انسان آخر، لم يكن السيد هاني يعرف ساعة رحيله، لكن مروره، ولو العابر والسريع في حياة أي منا، كان يترك الأثر الطيّب الذي لا يُنسى. أعطانا تفاؤلاً من قلب المعاناة، وانفتاحاً في لجّة الانغلاق، وجرأة وثقة وصبراً وشفافية. أعطانا مثالاً في القدرة على التصالح مع النفس والخصم والنقيض، ومع دينه ومذهبه وكل الأديان والمذاهب. أعطانا نموذجاً نادراً لرجل الدين المتماهي مع مدنيته، رجل الدين الذي لا يدّعي سلطة تخوّله التسلّط والرقابة وتحوّله جهازاً بوليسياً لمحاكمة النيات.
لم يكن هذا الإرث الروحي خلاصة استغراق واعتكاف في صومعة معزولة. كان عصارة سعي دائم الى المعرفة وتجربة حياتية في معترك الأفكار والسياسة والكتابة والحوار. تمنّيتُ، تخيّلتُ، لوهلة، لو أتيح لكل لبناني وعربي أن يلتقي السيد هاني ولو لمرّة واحدة، لتبقى في وجدانه روح الأصالة المنبعثة من الأرض، وهذه البساطة العميقة، وليلمس معه كم يستطيع الانسان أن يكون رائعاً. السيد هاني مثال للبناني الحقيقي والعربي الحقيقي والانسان الحقيقي، الذي يسكن في كل واحد منّا، ولذا لم يكن غريباً على أحد ولا أحد غريب عليه، بكل ما يختزن ذلك من قيم صارت الآن مصادرة في أقبية المتعصّبين والموتورين. لكن إرث السيد هاني أبعد أثراً في طرحه الأسئلة الصعبة في ما أصبح يعرف اليوم بـ”مسألة الاسلام” كدين أضاع، بمذاهبه كافة، فرص التجديد بتجنّبه مواجهة تحديات العصر التي انبرت لمساءلته من كل الأنحاء، وبالأخص من هامشه الذي أضحى “ارهاباً اسلامياً”.
في كل مسيرته كان السيد هاني يرى في القضية الفلسطينية بوصلة تحدد اتجاهات العرب في دفعهم للظلم، واحترامهم لكرامة الانسان العربي، ولم يعنِ ذلك أن لا ينتقد الفلسطينيين حين أخطأوا في لبنان، تماماً كما يخطّئ اللبنانيين والعراقيين والسوريين وغيرهم حين ينحرفون في سوقهم لمصائر بلدانهم. لم يكن بين ما أعطاناه السيد هاني أنه نقيض “حزب الله”، بل كنّا معه الى جانب الحزب يوم ضخّ في العالم العربي والاسلامي ليس روح المقاومة فحسب بل قيمها أيضاً. تلك القيم التي شهدت “رسالته” الشهيرة الى “حزب الله” أن الأخير بدّدها بذهابه “من مقام الشعوب الى مقام الأنظمة، ومن مشروع التحرير الذي إن لم يمر بالقدس فلن يمرّ الى عسّال الورد والمليحة والشيخ مسكين ونواعير حماه في سوريا، كما بدّدتها ايران بنسيان أن ثورتها كانت “مثالاً للثورة على الجور والجائر”. أما وصيته فكانت ان اللبنانيين ينتظرون عودة “حزب الله” للمشاركة في “بناء دولة الجميع” التي “إن لم تصبّ المقاومة في مستوعباتها وخزاناتها وأنبارها وإهراءاتها، فسوف تذهب مياهها ودماؤها هدراً”…