يكتسب الكلام مع السفير الالماني في بيروت كريستيان كلاجس بعداً آخر. بعدٌ تبلوره نشأته في برلين المنقسمة، ووعيه على سقوط الجدران، الداخلية منها والأوروبية، ولا ينتهي بخبرته الديبلوماسية في دول البلقان.
يبدو كلاجس كثير الحركة، قليل الكلام. “يدوزن” عباراته بالدقة الالمانية المعهودة. يقر “بحداثة” وجوده في الشرق الأوسط هو الآتي من السنغال، ما يجعله أكثر “حذراً”، أقله في مقاربته الاعلامية.”النهار” التقت كلاجس في مقر السفارة في الرابية لمناسبة “يوم الوحدة” في المانيا، وكان معه الحوار الآتي:
■ تحتفل المانيا اليوم “بيوم الوحدة” التي تحققت عام 1990. ما هو انطباعك؟
- يحتفل الالمان في البلاد وخارجها بالعيد الـ 24 للوحدة. نتذكر صور الفرح الذي عمّ، مع سقوط الجدار قبل 25 عاماً. جدار قسّم لأعوام طويلة العائلات والاصدقاء. كمواطن من برلين، أمضى طفولته بكاملها في مدينة مقسّمة، أؤكّد أن حقيقة قيام الجدار كانت مغلوطة. اليوم، يبدو من الصعب جداً أو بالأحرى مستحيلاً إفهام الشباب الحياة اليومية في ظل جدار امتد على مسافة 161 كيلومتراً وأحاط برلين الغربية. وتزامناً مع الأحداث في المانيا، شهد عام 1989 نهاية “الستار الحديد” والانقسام في القارة الأوروبية ككل. من هنا، فان الذكرى تمثل أيضاً يوم فرح لأوروبا. 3 تشرين الأول، يذكّرنا بالجدران المرئية وغير المرئية سواء في الشرق الأوسط أو في أنحاء أخرى من العالم. يجب تخطي الانقسامات والجدران أينما وجدت.
■ كيف تنوي تطوير التعاون الالماني – اللبناني، وما هي العوائق التي تعترضك؟
- (…) قام تعاوننا الرسمي على الثقة والتفاهم. ففي المانيا، يعيش 100 ألف لبناني وألماني من اصل لبناني. كثر ينتمون الى الجيل الثالث. وفي لبنان، هناك نحو 7 آلاف ألماني، علماً أننا لا نملك أرقاماً دقيقة. نحترم بعضنا بعضاً، كما أن لبنانيين كثراً يتكلمون الالمانية، وقد احتفلوا معنا بفوز منتخبنا في نهائيات كأس العالم لكرة القدم في البرازيل. من المؤسف القول ان “أجندتنا” الثنائية تتأثر بالأزمة الكبيرة التي تواجهها المنطقة. تستضيف المانيا رقماً ملحوظاً من اللاجئين السوريين كانوا نزحوا الى لبنان. نحن أحد أكبر المانحين في مجال المساعدة الانسانية. وهناك 300 جندي يشاركون في “اليونيفيل” لحماية وقف اطلاق النار مع اسرائيل في الجنوب. نتطلع الى تكثيف تعاوننا الاكاديمي. ففي لبنان نظام جامعي يبدو الأقوى والأوسع في المنطقة. وسنويا، هناك الآلاف من خريجي الجامعات اللبنانية الذين يتقدمون بطلب عمل في الاسواق الدولية. وفي المانيا، نقص في عدد الاطباء والمهندسين. من هنا، يمكن جمع هذه المعطيات ويجب أن نكون خليطا نموذجيا.
■ هل تنوي برلين استضافة مزيد من اللاجئين السوريين على أرضها؟ وما هو هدف المؤتمر الدولي الذي تستضيفه نهاية الشهر الجاري؟
- ثمة حاجة للمجتمع الدولي إلى أن يواصل تضامنه مع الدول التي تحتضن العبء الاكبر من كارثة اللاجئين وتعزيز هذا التضامن. يتحمل لبنان الثقل الاكبر على ما قال رئيس الحكومة تمام سلام امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك قبل أسبوع. الشعب الالماني مذهول برحابة اللبنانيين وما يقدمونه الى السوريين منذ اكثر من 3 أعوام. اليوم، تستضيف المانيا اكثر من 60 ألف سوري هربوا من الحرب الاهلية ويحظون بالحماية في مجتمعات مختلفة. العدد يزداد. كثر جاؤوا في طريقة عفوية وبعضهم اتى ضمن برامج منظمة اعدتها الحكومة الالمانية مع الولايات الالمانية. في الاشهر الـ12 الاخيرة، تم قبول نحو 13 ألف لاجئ سوري من لبنان او عبره. ثمة مجموعات جديدة ستنتقل من بيروت الى المانيا بدءا من تشرين الثاني المقبل. لا يمكن مقارنة ارقام ضيوفنا السوريين مع الـ1,2 مليون لاجئ الذين يستضيفهم لبنان. الا ان برامج اعادة التوطين تبدو اكثر من “نقطة في البحر”. نسعى الى اقناع اطراف اخرى بالشروع في مشاريع مماثلة لكن هذا الامر لا يبدو سهلا.
اما في ما يتعلق بمؤتمر اللاجئين المقرر عقده في 28 الجاري، فقد وجه وزير الخارجية فرانك شتاينماير دعوة الى 40 دولة. هدف المؤتمر بعث رسالة تضامن قوية مع اللاجئين السوريين والدول المضيفة. وحتى في أفضل الأحوال، لا نتوقع عودة كثيفة من يوم الى آخر وقد تبقى نسبة من اللاجئين في الدول المضيفة. غير أننا جميعا، نؤيد مبدأ العودة السليمة عندما تسمح الظروف بذلك. الهدف الحسي للمؤتمر لا يتمثل في نشر ارقام مالية. نأمل في أن نتمكن وفي شكل جماعي من الزام انفسنا بالدعم الانساني المتواصل على المدى المتوسط وبمساندة اضافية للمجموعات المضيفة التي تعاني على مستوى البنى التحتية نتيجة وصول الملايين من اللاجئين. يجب أن نأتي بدعم دولي إضافي يماشي الاولويات الوطنية (…).
■ في افتتاحية كتبها في “الوول ستريت جورنال”، حذر وزير الخارجية شتاينماير من اتساع سيطرة “داعش” وانضواء محاربين اجانب تحت لوائها بمن فيهم مقاتلون من اوروبا. كيف تؤثر هذه المسألة على سياستكم حيال المنطقة عموما ولبنان تحديداً؟
- ان خطر الارهاب والتطرف مقلق جدا، ليس فقط بالنسبة الى المنطقة بل الى اوروبا وما وراءها. مستوى العنف ومدى الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان في العراق وسوريا بلغا مستوى ملحوظا. الاوروبيون قلقون، فمناطقنا متجاورة، كما ان المتوسط بحرنا المشترك. من هنا يجب أن نأتي بأجوبة مشتركة حيال المخاطر القائمة (…) في ما يتعلق بالمقاتلين الأجانب، فقد أقر مجلس الأمن وبالاجماع القرار 2178 الأسبوع الماضي والذي يجرّم السفر الى الخارج للمشاركة في القتال وكذلك التوظيف والتمويل. لقد اتخذت حكومتي خطوات قانونية لتعزيز منع مشاركة المواطنين الالمان في القتال في سوريا والعراق. غير أن الأمر لا يبدو مسألة عقاب فحسب. يجب أن نفهم لماذا يتم اجتذاب بعض شبابنا من ارهابيين متطرفين وتحويل الايمان الديني عنفاً. نواجه ظاهرة اجتماعية يفترض مقاربتها
■ ساهمت المانيا في التدخل العسكري في كوسوفو عام 1999 وكذلك في افغانستان (2001)، إلا انها عارضت التدخل في العراق عام 2003. ما هي الدروس التي تم استخلاصها ولا سيما انك خدمت في البلقان سابقاً؟
- شكل تفكك يوغوسلافيا وتوالي الحروب عام 1990 خبرة مأسوية للأوروبيين بعد أعوام من السلام والاستقرار. شهدنا مئات الآلاف من القتلى والجرحى وذوي الحاجات الخاصة وتابع الناس الابادة الاتنية يومياً عبر شاشات التلفزيون وكذلك وصول اللاجئين بمعدلات مرتفعة. عام 1995، دخل الى المانيا وحدها 350 ألف لاجئ من البلقان. تعلمنا أن نهاية الحرب الباردة لم تتواكب والسلام المستدام. لقد شكل توالي الحروب في يوغوسلافيا خطأ مأسوياً وكان ممكناً وقفها لو تحقق عمل دولي في مرحلة مبكرة. في النهاية، تم تسهيل تحقيق السلام انطلاقاً من عاملين: الأول، عبر وجود هيكليات تتعدى الأوطان وتعمل كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إذ مكّنت الأوروبيين من الوصول الى الاجابات ومن العمل في طريقة عسكرية أيضا ضد أولئك الذين خرقوا وفي شكل فادح، انظمتنا وقوانيننا وقيمنا. أما العامل الثاني فيتمثل في المقاربة الأوروبية. فقد أراد الشباب في يوغوسلافيا السابقة مستقبلاً والتنقل بحرية (…) تحقق السلام اليوم ونصف دول البلقان انضم الى الاتحاد الأوروبي (…) تلك هي الدروس التي يمكن استخلاصها. ان الحروب الأهلية في الشرق الأوسط وفي القرن الـ 21 تبدو غير منطقية. فبدلاً من الدخول الى العالم المعولم، يتقاتل الناس من أجل السلطة أو من أجل الاستمرار على قيد الحياة. كما انه اذا أرادت المنطقة سلاماً مستداماً، فهي تحتاج الى هيكليات أمنية يمكن من خلالها أن تقارب الحكومات مشكلاتها وتعمل معاً على حلول. لقد طرح الوزير شتاينماير أخيراً مقاربة “عملية هلسنكي” للمنطقة.
■ قلت في مقابلة مع “دويتشلاند. دي” ان الشعب اللبناني يحتاج الى حكومة تعمل والى سلام. وعلى رغم النداءات الأوروبية في هذا المجال، لم يتحقق شيء.
- قلت ان الشعب اللبناني يتمنى ومن دون شك ان يكون لديه حكومة تعمل وتوفر الوظائف وتنظم المدن وتحمي البيئة وتنظم السير. يتطلع الى سلام والى عودة آمنة للاجئين. يتمنى مشرقاً يتطلع فيه الناس من مختلف المجموعات والديانات وضمن فسيفساء ثقافية حية، الى تنشئة أولادهم وتطورهم وفي شكل مسالم. قد يبدو الأمر حلماً لكن هذا ما أتمناه. أنا معجب بشدة بلبنان وشعبه. وبعد الاستقلال بمرحلة قصيرة، واجه بلدكم تحديات وأزمات لكنه تمكن من الحفاظ على طبيعته الفريدة. لا أوافق معك على أن شيئاً لم يتحقق. ثمة مستوى متواصل وملحوظ من الارادة من أجل الوحدة والاستقرار، في ظل الأوضاع الكارثية في دول الجوار وتأثيرها على لبنان. قد يجوز القول أنه يمكن أن يحصل تقدماً أكثر أو اسرع. وعواصم العالم بما فيها برلين لا تفهم الشغور المتواصل في الرئاسة. وكذلك لا نفهم الذين يعوقون تحديد مرشح توافقي وانتخابه من دون التدخل الخارجي المعتاد.