تنشر «السفير» المقالة الأخيرة التي كتبها السيد هاني فحص، وراجعها في أثناء علاجه، قبل دفعها إلى الطبع في مجلة «الفكر التقدمي».
كانت الثنائيات ولا تزال تستأثر بالمساحة الأوسع والحرارة الأشد في مجمل الحوارات والسجالات الفكرية والأدبية والسياسية في العالم. وإن كانت بعض الأقطار، قد قامت بما يشبه تدوير الزوايا بين طرفي بعض الثنائيات، أو حسمت الجدل لمصلحة طرف ما، فإن ذلك لم يختم الحوار والسجال فيها، وإن خفف من حرارته أحياناً، ما يعني أنها مسألة إشكالية، تتجدد بتجدد الظروف الاجتماعية والمعرفية، ولا تتحمل حلاً نهائياً، وهذا الأمر ربما كان من أهم مصادر الحيوية في تداولها والبحث في حلول ممكنة لتعقيداتها.
من هذه الإشكاليات المعمرة، إشكالية الاسلام والغرب تفريعاً على ثنائية الغرب والشرق، والتي احتدم النقاش حولها في المشرق العربي والإسلامي، منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر الميلادي، مع محمد علي باشا ومشروع بناء الدولة في مصر، عقب حملة نابليون واحتلال مصر من طرف انكلترا العام 1882 في خط احتلالات متعددة، وما طرحته هاتان المحطتان من أسئلة عمقتها البعثات الدراسية المصرية إلى فرنسا، وقراءة رفاعة الطهطاوي لباريس المدينة ولفرنسا بعد الثورة من خلالها، وانتقاله إلى قراءة حالنا واستكشاف أولي للمفاصل التي ينبغي التواصل من خلالها مع الغرب، على أساس ان المنجز الحضاري مهما تكن البيئة التي أنجز فيها، مشاع أو فضاء مشترك للجميع، وعلى أساس أن الجميع قد شاركوا فيه وبشكل ظاهر او خفي، ما يضفي على الحضارة صفة الوحدة من دون إهمال التعدد في تجلياتها المحكومة بخصوصيات وطنية أو إثنية مختلفة.
كان لا بد للأسئلة الفكرية الحاملة لهموم وموجبات وانتظارات الاجتماع العربي والاسلامي، من ان تستكمل مسارها لتتحول إلى واقع ملموس، وهذا يشترط ان يتحول المنعطف الفكري إلى مشروع سياسي وتنظيمي يجسده، ولعل الثورة الدستورية (1906) التي تواصلت بين اسطنبول وطهران مارة غير عابرة ببغداد والنجف، قد مثلت الفرصة الذهبية التي كانت الأسئلة تنتظرها لتتحول إلى مسارات ووقائع.
غير أن الحرب العالمية الأولى التي كانت تقترب، هي التي اقتضت أن يكون فشل هذه الحركة إحدى أهم مقدماتها (أي الحرب). هذا والوثائق تفيد بأن السلطان عبد الحميد، برغم كل سلبياته التي لم يحاسب عليها بل حوسب على إيجابياته، كان يستشعر علامات على الحرب القادمة، وما تحمله من طاقة تدميرية للسياقات والمسارات النهضوية المحاصرة أصلاً، ولأسباب تتصل بموقعه وسلطته، فكّر وربما عمل على تفادي الحرب، ما عجَّل، مع أسباب أخرى، في إقصائه، لتتولى «تركيا الفتاة» و«الاتحاد والترقي» مهمة الإسهام في إشعال الحرب والمشاركة فيها.
هذا في حين كان عبد الحميد، الذي أسقطه الحلفاء، متوجساً من نية أصدقاء تركيا في المحور في إشعال الحرب، وربما كان إقصاؤه نوعاً من المحاسبة على ذلك وغيره من إيجابياته قبل سلبياته. وهكذا، وبدلاً من ان نتحاور ونتثاقف مع الغرب، أصبحت الحرب فرصة لاستلحاقنا وتعطيل آليات النمو الداخلي في حياتنا، بحيث أن الاستقلالات اللاحقة، تكتمل، ولم تكن تعني أكثر من كونها إعادة إنتاج، على حداثة شكلانية، للعلاقة الإذعانية بالغرب، الذي اكتشف ان لدينا ثروات إضافية ونوعية، لا بد من تجديد رهانه عليها، بالتناغم بين إرادته وقصورنا وتقصيرنا، ما أعاد السخونة إلى ثنائية (غرب ـ شرق) خصوصاً بعدما انكشفت أعطال وإعاقات حركة التحرر العربي، سواء في عمارتها الفكرية أو في تجربتها التي أفضت إلى سلوكيات تجرأت على تنظير التبعية، مستفيدة من السيرة الفضائحية للأنظمة (التقدمية؟) في تشنجها اللفظي ضد الغرب، والآخر عموماً، مقدمة لسقوطها الإرادي والذريع في قبضته.
لقد كان وما زال هناك بيننا تيار او اتجاه عربي وإسلامي عميق وحريص على التوازن، قد اختار الوسطية والاعتدال والتسوية والتنمية، موقعاً ومنهجاً وحلاً لإشكاليات التعارض والتماثل بين أطراف الثنائيات، ومنها ثنائية (شرق ـ غرب) وقد اشتغل ويشتغل على تحرير المساحات المشتركة، وفصّلها على مساحات الاختلاف والخلاف، من موقع نسبي يرى أبعد وأعمق ويتجنب التلفيق، ويعمل على تدبر تسويات تاريخية مفتوحة على التطور، من دون الوقوع في تبسيطية الحل الذي طُرح سابقاً، متمثلاً في التوفيق بين روحانية الشرق ومادية أو تقنية الغرب!
النقاش لتحديد الزوايا وتدويرها، يجب ان يبدأ دائماً من حيث انتهت العلاقة بين الشرق والغرب، وما انتهت إليه صورة كل منهما عن ذاته في ذاته ولدى الآخر ـ يلاحظ كلام الرئيس أوباما في خطاب القاهرة عن الصور النمطية، هذا حتى لا نكون أسرى للموروث الإشكالي والصراعي الطويل بيننا، وحتى يكون في إمكاننا ان نعالج الراهن من أجل الآتي، بدل أن نبقى أسرى الذاكرة الغابرة، أو القريبة التي تراكمت فيها السلبيات نتيجة انفجار الصراع من جديد، أمام تحديات كانت تفترض الشراكة بدل القطيعة، لولا أن بعض الغرب، وواشنطن (الإدارة تحديداً في أكثر عهودها) ظلت على نظرتها الذكورية الاستيلائية إلى ذاتها والأنثوية الإذعانية إلى ذاتنا، إلى حد أن المحافظين الجدد كظاهرة قد عالجوا مرضهم اليساري بدواء يميني (كورتيزون) أشد فتكاً من المرض…
إن الإسلام أو المسلمين، وتحت ضغط الظروف الداخلية والخارجية، وبسبب الانسدادات المتعددة والمتراكمة على صعيد الدولة والمجتمع، يعرضون أنفسهم أو يتعرضون لما يمكن تسميته تظهيراً للخلاف أو دفعاً للاختلاف إلى مستوى الخلاف القابل لأن يتحول إلى صراع فتاك بين الجماعات المذهبية وداخل المذهب الواحد، بحيث أصبح الجسم الاسلامي في حالة تموضع مخيف لتنوعاته التي كان من المفترض أن تنتظم على حال من وحدة المتعدد، ما يدعو أهل الاعتدال والرؤية والتقوى والمعرفة، إلى استدراك المخاطر وإعادة التعدد الطبيعي إلى سياق الوحدة.
قد تمكننا هذه النظرة من تحقيق رغبة مشروعة في رؤية أو جعل العلاقة بين الاسلام والغرب أقرب إلى المنهجية، أو بعيدة عن المعرفة الناقصة والفرضيات الذهنية الصرف، والتي تغري بالقطيعة التامة، وهي مستحيلة كما هو التماهي مستحيل، ولا بد من مسلك وسطي يحدد احتمالات ومواقع الاتصال والانفصال معاً، على أن لا نقع ثانية في التعميم والإطلاق. فالاتصال والانفصال نسبيان وتاريخيان، بمعنى أن هناك مواقع انفصال قد تصبح قابلة للاتصال وكذا العكس، وهذا يلزمنا ويلزم الغرب بتجديد معرفة كل منا بالآخر، وإلا وقعنا في إهمال المتغيرات، ما يشكل اعتداءً على الثوابت، بينما التحدي المعرفي والعملي الحقيقي، هو الحفاظ على الوصلة المتحركة سعة وضيقاً بين الثابت والمتغير حفظاً لكل منهما بالآخر.
ولعل المستوى التركيبي والتعددي في شخصية الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي هو من أصل كيني والمسيحي من أصل إسلامي والأسود الفاتح قليلاً، هو ما جعله يقدم في القاهرة أكثر وأبعد من خطاب، فاقترب من أن يكون خطابه مشروع رؤية قابلة للتموضع في تاريخنا الحديث أو مستقبلنا، منسجمة مع علامات نهوض تظهر بشكل غامض مرة وواضح مرة وإشكالي معقد دائماً، في حركة «الربيع العربي» وتمدده إلى كل الأنظمة السياسية وأنظمة المعرفة أو نظام المعرفة العربي أو الاسلامي الذي يشهد انفجاراً ضخماً في بركان الأسئلة المكبوتة.. إلى أنظمة الاجتماع الذي أصبح ملزماً وبشكل نهائي بين اختيار التعدد على أساس الديموقراطية والمواطنة سبيلاً إلى وحدته، وبين اختيار التخلي عن إدارة التعدد إلى إدارة الفصال والانفصال المهدد بالتشظي الدائم وتحول الجزء إلى جزئي.
هذه الرؤية «الباراكية» التي أنتجتها الثقافة المجتمعية الأميركية التعددية أحبطتها الإدارة الأميركية التي أعادت أوباما إلى السياق المألوف من إلزامه باختيار إسرائيل ضد العرب بدل أن يسعى الجميع إلى أطروحة أو مشروع مركّب من العرب واليهود على طرف الدولتين أو الدولة الواحدة بكل ما تقتضي من عهود ودساتير تحفظ الأرجحية اليهودية على العربية طمأنةً لليهود وللغرب الذي عوّدنا أن يحل المشكلة الأوروبية بمأساة يهودية والمأساة اليهودية بمأساة عربية حتى وصلنا إلى وضع مأساوي للجميع عرباً ويهوداً.
إننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك تداخلات عميقة، شكلت مفاصل حضارية مشتركة بيننا وبين الغرب، بصرف النظر عن ظروفها بداية ونهاية، ولعل تجربتنا في الأندلس أحد تجلياتها العظمى، وقد كانت تكفيراً حضارياً حقيقياً عن خطيئة الفتح الذي لم يكن يشكل ضرورة إسلامية بقدر ما كان استجابة لرغبات سلطوية، والذي لا يقع في سياق الرؤية النبوية والحضارية للدعوة الإسلامية بل أملته مطامع وطموحات كان من الصعب على العلماء المسلمين الموضوعيين الذين لا يفكرون بناءً على طلب السلطات فقط قبولها أو الرضى بنتائجها المدمرة للإسلام والمسلمين والآخرين، وقد كانت هذه التجربة الرائدة ثمرة اختيار المسلمين للإيمان الكبير والتوحيد الإبراهيمي جامعاً، في ورشة علمية واجتماعية وعمرانية معروفة. ولم نعدم التنعم المحدود بمثل هذه الثمرة على مرارتها في الحروب الصليبية التي مهدت من خلال تأثيرات المسلمين على الغربيين، لعصر الأنوار في أوروبا، وانفجار إشكاليات الكنيسة والمجتمع والدولة… وحتى العهود الاستعمارية المباشرة خصوصا منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وغير المباشرة في أعقاب الاستقلالات التي كانت بحاجة إلى استكمال. وبرغم السلبيات العظمى والفادحة، لم تخلُ من بعض التأثيرات الإيجابية لفكرة بناء الدولة والمؤسسات والقانون وفصل السلطات.
ومن المؤسف أن قلة منا توفرت على قراءة هذه المشاهد والوقائع قراءة هادئة وهادفة، بينما تكررت قراءتها الصحيحة والسقيمة في الغرب، بغاية الإفادة منها في اتجاهين متعاكسين، اتجاه اعتبرها دالة على إمكانية بناء علاقة شراكة عادلة ولو نسبياً، وعلى أساس حقوق الإنسان، واتجاه اعتبرها دالة على ضرورة القطيعة تمهيداً للاستحواذ والهيمنة علينا، وقد يعني ذلك كله أننا مضطرون إلى الميل إلى الشراكة الثقافية أو الحضارية، بشروط منصفة أهمها شرط التأهل الذاتي لدينا، على أن هذه الشراكة الممكنة او الواجبة يمكن ان تكون من أهم الشروط والمؤهلات التي تساعدنا على الخلاص من سلبيات التغريب او التغرب، بالمعنى الالتحاقي او الاستلحاقي، أي الاستعماري المتجدد علينا وعلى قابلية فينا ورغبة من المستعمر.
فهل في إمكاننا ان نتوقع ونعمل لنشهد حالة من التفاعل والتواصل بين العالم الإسلامي والغرب مع أن الظروف الراهنة لا تشير بوضوح إلى ذلك برغم الخطاب اليومي الذي نسمعه في تأييد حركات الشعوب ضد أنظمتها الاستبداية التي بقيت وتبقى مقبولة ومحمية من الغرب إلى أن يبلغ ضعفها وجورها وتخلفها مداه وتنهض الشعوب ضدها ولا يبقى بإمكان أحد أن يحافظ على استمراريتها؟