إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا … ألا تفارقهم فالراحلون هم.
منذ أن فارقنا العلامة السيد هاني فحص وأنا أشعر بالذنب، وكأنني شاركت في رحيله ولو بشطر كلمة من شكوى الزمان، فالسيد يستحق أن يبذل من أجله الغالي والنفيس كي يبقى على هذه الأرض بعض لحظات أخرى، لأن الدنيا لا تستحق أن تعاش إلا إذا كانت أنفاس أمثاله تمنحها الحياة لحظة لحظة.
لكن السيد لم يكن يمنحك القدرة على الامتناع عن البوح بالمكنون من الهموم، فما أن يستقبلك ويجلس قبالتك حتى تشعر وكأنك في حضرة محراب للبوح يستضيف كل أوجاعك، ويرسلها كي تسري في تيار من الأمل بعد الألم.
أول ما يسترعي انتباهك في السيد صوته الدافئ، ولهجته التي تأخذك في جولة من جبل عامل إلى النجف الأشرف، فالقدس، فطهران، ليتكامل السيد بعدها دليلاً في رقعة جغرافية لم تكتفِ بعدُ من الحزن الذي أنهك جسده حتى النزع الأخير، وما أنهك روحه بشهادة الأطباء، وهيهات، فهذه الروح لم تعرف الإنهاك في أحلك الظروف والشدائد، فما بالك بمرض عضوي لا يستثير من السيد إلا سخريته.
في لحظة الفقد هذه ينتاب النفس شعور بالفراغ، فالسيد لن يكون في منزله عندما أزور لبنان، وهل بعدها من لبنان؟ لماذا أفقد في هذا البلد أحبة كانوا هم من يشدونني إلى المجيء؟ وكم يصر هذا البلد على أن يفجعك بأحبتك؟
لم يقل المتنبي بيته الشهير إلا وقلبه ينضح ألماً ممن يحيط به، فرحل محمِّلاً وزر رحيله على كاهل أولئك الذين كان يمكنهم استبقاءه ولو للحظات أخرى، وهكذا كان السيد، فالمحيطون به أتعبوه وهم يلتفون بعباءته رجاء الشعور بلحظات من أمان في حقبة موحشة لا مكان فيها إلا لقاتل أو قتيل.
ولكن، هل أتعبت هذه الالتجاءات جسد السيد؟ لا أرى ذلك أبداً، فمن يعرفه حق المعرفة يعلم بأن السيد يزداد ألقاً عندما يحتد مدافعاً أو مناقشاً أو شاجباً، وكأنه كان يداويها بالتي كانت هي الداء، ويطفئ النار بنار تضطرم في روحه الهاشمية الأبية التي قطعت عهداً في يوم مبارك من عمر الخليقة بأن (لا تقر إقرار العبيد).
ومع ذلك، فهل هنالك أدنى احتمال بأن تكون هذه الالتجاءات يسرت رحلته الجديدة؟ ربما نعم، وربما لا؛ ولكنني موقن بأننا كنا نحن من رحل عن السيد كي يستطيع للمرة الأولى في حياته أن ينطلق بعيداً عنا في رحلة لا يشاركه فيها غيره، وليمارس للمرة الأولى في حياته حقه في ألّا يشاركه أحد في ذاته.
نعم، لقد رحلنا عنك أيها السيد الجليل، فيا لخسارتنا، ويا لربحك؛ خلصناك من متاعب شعوب زلت بها قدمها في دروب التاريخ، ولا تزال تبحث عن أمثالك، وأنتم قليل، لتبثكم وجعها وشكواها، وتبحث عن بصيص أمل أو نظرة عطف تخفف بعضاً من معاناتها.
وداعاً سيدنا، ومبارك لك رحلتك الجديدة نحو آفاق أخرى، ولا تنسَ، كفضل أخير، أن تسامحنا على ما أتعبناه لك من جسد، أو ما استنزفناه من وقت، أو ما كلفناك من أعباء، فأنت كنت في أعيننا سيداً هاشمياً ينبض قلبه بالكرم، ويجود قبل السؤال.
الشيخ حبيب آل جميع (كاتب سعودي)