لا أولوية تعلو على عودة العسكريين المخطوفين إلى عائلاتهم سالمين، ولكنّ هذه العودة لن تتمّ بسحر ساحر، إنما تتطلّب خطواتٍ عملية، وما دون هذه الخطوات يعني تعريض حياة هؤلاء العسكريين للخطر.
أصاب الرئيس تمام سلام عندما أكد أنّ لبنان هو في موقع الدفاع عن النفس لا الهجوم، وذلك في رسالةٍ واضحة بأنّ الدولة ستعمَد إلى حماية الأراضي اللبنانية وتحديداً بلدة عرسال، ولكنها لن تتورّط في معركة عسكرية باتجاه جرود البلدة، ليس فقط لأنّ العوامل التي أوصلت «داعش» و«النصرة» إلى هذه البقعة مرتبطة بالصراع والمواجهات الدائرة والتي لا علاقة للبنان بها، بل لأنّ كلفةَ مواجهةٍ من هذا النوع على الجيش اللبناني ستكون بالآلاف، وهي معركة بدل عن ضائع، ولأنّ الطرف الذي كان وعد وتوعّد بالقضاء على هذه الجماعات هو النظام السوري و»حزب الله»، فضلاً عن أنّ الحزب لم يستأذن أحداً عندما قرّر الخروج من لبنان للقتال في سوريا.فأهمية موقف سلام أنه قطع الطريق على القوى التي تريد توريط الجيش في معركةٍ تحت عنوان الحسم والتي أشّرت في جانبٍ منها، وبشكلٍ واضح إلى خلل عسكري ما، لدى النظام والحزب وحاجتهما إلى الجيش اللبناني ليتكفّل بالمهمة عنهما.
وقد ترافق موقف سلام مع موقفٍ للدكتور سمير جعجع لفت فيه إلى نقطة مهمة وتستكمل الصورة التي تحدّث عنها رئيس الحكومة لجهة أنّ مواجهة «داعش» و«النصرة» وغيرهما أصبحت من مهمة التحالف الدولي، وبالتالي بمعزل عن دور لبنان وموقعه في هذا التحالف، ولكنه لم يعد يستطيع أن يفتح مواجهة على حسابه وطريقته ولأهداف غير لبنانية، إنما عليه التنسيق سياسياً وعسكرياً مع الإدارة المركزية لهذا التحالف، أي عليه أن يرتبط عضوياً ضمن قيادة مشترَكة تتولّى هذه المهمة، وقد يكون هذا الطرح وعوامل أخرى بطبيعة الحال ما دفع ٨ آذار للتراجع عن فكرة الحسم، حيث فضلت استمرار الواقع على ما هو عليه على الانخراط عملياً في التحالف الدولي.
وإذا كانت الطريق نحو الحسم الانتحاري طُوِّقت بموقف سلام الذي أكد على موقع لبنان الدفاعي واشتراط جعجع التنسيق مع التحالف الدولي، فإنّ النائب وليد جنبلاط نقل ملفّ العسكريين المخطوفين إلى موقع متقدّم بدعوته إلى المقايضة من دون تردّد، وهذه من ميزات جنبلاط بإطلاقه المواقف التي تخرق السقوف وتخلط الأوراق السياسية.
فالمقايضة هي الحل العملي الوحيد، لأنّ انسحاب «حزب الله» من سوريا غير وارد باعتباره قراراً إيرانياً بامتياز، والضغط عليه من هذا الباب لا يقدّم ولا يؤخّر، وحتى الجهات الخاطفة لا تطرح هذا المطلب إلّا من باب رفع سقف التفاوض.
وأما القيام بحملة عسكرية لتحريرهم، فقد تؤدي إلى قتلهم، وجرود عرسال ليست نزهة، ويكفي الركون إلى موقف «حزب الله» الذي جمّد عملياته العسكرية في هذه المنطقة في مؤشر إلى صعوبتها وكلفتها البشرية.
ولو أعطت الحكومة منذ البداية إشارةً باستعدادها للمقايضة لما كان، ربما، استشهد العناصر الثلاثة في الجيش، ولكنّ مردّ تلكُؤ الحكومة عائدٌ إلى خوفها من رد فعل «حزب الله» الذي كان هدّد بالويل والثبور واعتبر أيّ موقف ما دون الحسم خيانة، إنما عندما لمس حجم الضغوط الشعبية التي تُحمِّله مسؤولية دماء العسكريين خرج السيد حسن نصرالله ليعلن انّ حزبه كان من البداية مع التفاوض، ولكنّ التفاوض شيء والتبادل شيء مختلف تماماً.
وبعدما فشلت مساعي تحويل ملف خطف العسكريين إلى ذريعة لشنّ حملة على الجرود، ووصول التخويف في هذا الملف إلى حدّه الأقصى، أصبحت المماطلة والمراوغة والتلكُؤ تشكل خطراً على الوضع الأمني في لبنان، لانّ مواصلة قتل الإرهابيين للعسكريين سيؤدّي إلى هزّ الاستقرار، وبالتالي لا حلّ سوى بالمقايضة من أجل إقفال هذا الملف وفي أسرع وقت.
ويجب أن تترافق المقايضة مع تدابير عسكرية دفاعية استثنائية في عرسال وعلى الحدود منعاً لتكرار أعمال الخطف. فالخطف هو الاستثناء لا القاعدة، وعلى الدولة أن تتعامل مع هذا الاستثناء بجدية من أجل منع تكراره وتحرير مواطنيها. فثقة الناس بدولتهم أهم من السيادة، لأنّ غياب عامل الثقة يدفعهم للبحث عن أدوار دول أخرى وحمايات جماعات أخرى، فيما إشعارهم بأنّ دولتهم حريصة على أمنهم وحياتهم يجعلهم متمسكين بدولتهم أولاً وأخيراً...