عندما سمعتُ بمرض العلامة اللبناني صاحب العِمامة السوداء هاني فحص (1946- 2014) سجلت في دفتري الكتابة إليه تحت هذا العنوان «تماسك رحيلك يخل بالمعادلة»؛ لكن المرض لم يمهله ويمهلني لمناشدته، مع علمي عن طريق الأكاديمي اللبناني سعود المولى أنه في غيبوبة قد تطول. كنت أعني ما أقوله، فعمامة مثل عمامة فحص غدت أقل من القليل، وعلى وجه الخصوص أن حاملها صاحب باع في الكلام والكتابة، وصاحب حجة وطنية قبل بقية الفرعيات، مكورة فوق جبل من التجارب والمواقف، حتى أن الكثيرين ممن لا يعجبهم أداءه ضد إخضاع الدين للسياسة تمنوا أنه يخلع ما بينهم وبينه من صلة، فقلتُ له: «لا تخلعها فنخسرك محارباً بأدواتهم، تمسك بها كي لا ينفرد المتزمتون الطائفيون بتمثيل الله وأوليائه على الأرض».

لا تخلعها، فبها تراهم يهيمنون على البسطاء، لا يدعون ذرة علم وعقلانية تصل أدمغتهم، بوهم أن الأوطان عبارة عن دين ومذهب وممارسات، قال عنها النجفي محمد صالح بحر العلوم (ت 1992) في «بعض العقائد» (1934): «أنا لا أريد لأمتي حريةً/ في ما تدين لأنها رعناء»(الخاقاني، شعراء الغري). يومها كان بحر العلوم يعتمرها سوداء كعمامة فحص، لكنه تخلى وتخلت عنه، ومثله كان سليل المرجعية الدينية آل كاشف الغطاء الشيخ صالح الجعفري (ت 1979)، ولأنه يحمل همَ هذه الجموع محاولاً انتشالها اضطر للتخلي عن عمامته البيضاء ولقبه أيضاً، كي لا يُحمل الأسرة نتائج مواجهاته الفكرية والأدبية ومواقفه في الإصلاح، من أجل رفع شأن مواطنيه، عندما قال (1926): «وقَيدٍ طالما قُيِّدت فيه/ وأهونْ بالرجالِ مُقيِّدينا/ نبذتُ به ورائي لا أُبالي/ وإن غصَبَ الكرامُ الأقربونا/ حناناً- يا أماثلنا – حنانا/ حناناً.. أيها المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ وأسفرت الحقيقةُ، فاتبعونا» (الغبان، المعارك الأدبية حول تحرير المرأة، عن الديوان).

ظلت العِمامة ثابتة على رأس هاني فحص، ولم يخل بموجباتها، في الوقت الذي خلعها مواطنه العلامة حسين مروة (اغتيل 1987)، لأنه وجد في نفسه فراقاً بين العمامة وتصنيف كتاب «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية». كذلك لمعروف الرصافي (ت 1945) قصة في خلع عمامته، ومثله محمد مهدي الجواهري (ت 1997). هذا، وكم من لبناني من جبل عامل جاء إلى النجف للدراسة الدينية ليكون مشروع رجل دين فخلع عمامته كي لا تعيقه عن الدخول في عوالم الفكر والثقافة، أو لم يتمكن مما تمكن منه هاني فحص من الموازنة بقناعة لا رياء. وقد كشفت الحوادث بعد العقود عن مرائين مِن أهل العمائم وأهل اللُّحى والمسابح الأفندية، وهاني لم يكن من بين هؤلاء.

ظلت عمامته ثابتة، ولم تكن ثقافته الدينية رخوةً كي يتأثر ويسارع إلى خلعها، وفي الوقت نفسه لم تكن ثقافته المدنية رخوة أيضاً كي يساير من وصفهم الجعفري أعلاه بـ«المتزمتونا». يقول عن أول اعتمارها وهو ما زال دون السن الموجبة حتى قال المشايخ عنه «بكير على السجن» (فحص، ماضي لم يمض)، قال عن تلك المناسبة بما يشوقني لحديثه «المهضوم» على حد اللفظ اللبناني: «تعثرتُ بذيل جبتي، وسقطتُ على أرض الشارع على وجهي، وانحلت عمامتي، ولم استطع لفها، وعدتُ إلى المدرسة بشكل كاريكاتوري» (المصدر نفسه).

كان أول تعرفي على العلامة هاني فحص عبر مجلة «النور» الإسلامية التي تصدرها مؤسسة الإمام أبي القاسم الخوئي، في مقال فتح ذهني على حقيقة لم أكن أعرفها عن الإسلام السياسي، ولربما بحثها كتاب قبله، وفيها كشف عن عدم أصالة الأحزاب الإسلامية من ناحية التنظيم، ولأهمية ما كتب أتي بهذا الاقتباس: «لا أصل إسلامياً لنماذجنا الحزبية الإسلامية. أما النسبة العالية من التماثل بينها وبين الأحزاب الأخرى المغايرة، فتأتي من شيء من التعرف على تاريخ الأحزاب، التي كان لها دور كبير في التاريخ الحديث، وظروفها وشروطها (الحزب الشيوعي مثلا)، خصوصاً إذا لاحظنا أن كثيراً من قيادات وسطية وكوادر شيوعية عربية غادرت مواقعها لتنتظم في إطار الأحزاب الإسلامية، وتتحول إلى مصادر رؤية في العمل الإسلامي الحزبي. لكن التماثل في أساسه إنما يأتي في الدرجة الأولى من ضرورات تكوينية طبيعية في البناء الحزبي، لا دخل فيها للوعي أو الإيمان أو عدمه» (مقال: كل الأحزاب العربية لينينية، مجلة النور، العدد 88).

ظل العلامة هاني فحص يلح على المواطنة، معتبراً الحزبية الدينية شقوقاً في الوطن والدين، فهي عابرة للأوطان والإنسان، لذا لم يأت موقفه من النظام السوري إلا كونه لبنانياً، وأن شراكة «حزب الله» اللبناني لهذا النظام قد صادر شيعة لبنان بل الشيعة بالمنطقة، وأصدر البيان تلو البيان في توضيح الموقف، وأين تكمن مصلحة الشيعي اللبناني، في الوطن أم في الحزب؟ كان سباقاً إلى التقارب الوطني، وتجده البارز في الحوار المسيحي الإسلامي، وربما أكثر البلدان يحتاج إلى هذا الحوار هو لبنان قبل غيره، فالشرخ هناك ظهر من مواجع الحرب الأهلية، يوم تحولت الطوائف اللبنانية إلى قبائل مسلحة، فأنست العالم بيروت الثقافة والتمدن، وصار اللبناني إما مقاتلاً داخل فوج طائفته وإما مغترباً.

يمتاز هاني فحص بأسلوب يندر أن تجده بين علماء الدين، مع أنه يعطيك تصوراً عن الشخصية الفقهية اللبنانية، أسلوب أدبي رصين، يلعب على اللغة كي يوصل الفكرة بسلام، وذلك عندما يرى القاعة مكتظة بالمتزمتين، والنتيجة أن فكرته تصلهم مع متعة الحديث. تراه يعترف باللجوء إلى هذا الأسلوب في كتابه «ماضي لا يمضي» (دار المدى).

لاشك أن الموت حق، وعندما نقول: رحل في وقت غير مناسب، لا نقصد سوى الأماني والحاجة لمثل هذا الرجل، والذي ما أن تقرأ له مقالاً أو تسمعه حتى تظن نسمة مرت عليك وتركت في روحك سلاماً. شاركته في ندوة الحوار الإسلامي المسيحي (فبراير 2008) ببيروت وكنتُ محاصراً على المنصة بين عمامته وقلنسوة أحد القساوسة اللبنانيين، فقال لي: «أين المفر»؟

على أية حال، ما تركه العلامة هاني فحص في نفسي وعقلي، وفي الآخرين من أمثالي، يؤكد أن الوطن للجميع، وقد حفر في النفوس ذلك على «مقدار ما تقول الشراكة من قيم وأفكار وعواطف ومتاعب ومواجع وأفراح وأحزان..». هذا آخر ما قرأته له.

رشيد الخيّون