تظهر التطورات الميدانية والسياسية المتدحرجة خلال الـ 36 الساعة الاخيرة، سواء في البقاع او في الشمال، ان الجماعات المسلحة التي اسرت العسكريين اللبنانيين وفرضت المواجهة على لبنان قررت الدخول في اختبار جديد للقوة مع الدولة.
بحسب التقارير الميدانية المتراكمة لدى الجهات الامنية والسياسية المعنية، الرسمية وغير الرسمية، ان هذه الجماعات انتقلت خلال الايام القليلة الماضية الى مرحتلها التالية اذ تعمدت سلوك نهج تصعيدي نوعي في عرسال وفي طرابلس.
ففي الاولى كان واضحا ان هذه الجماعات والبيئات الحاضنة لها في داخل مخيمات اللاجئين التي فاقت المئة، اقدمت للمرة الاولى على خطوات فحواها عدم الرضوخ للاجراءات التي اتخذها الجيش وتجلى ابرزها في التظاهرة التي نظمها عدد من اللاجئين السوريين ومعهم لبنانيون امام مبنى بلدية عرسال. واللافت في هذه التظاهرة غير المسبوقة، ليس فقط حجم المشاركين فيها ورفعهم راية تنظيم "داعش" التي تحتل الشاشات، بل اطلاق المشاركين فيها شعارات وهتافات تدعو الى إقامة الدولة الاسلامية.
واذا كان بعض القوى السياسية قد وجد في مشهد التظاهرة صدقية لتخوفاته وتحذيراته السابقة المتكررة من زمن تتحول فيه مخيمات اللاجئين السوريين الى معسكرات وتمسي بيئات حاضنة للسلاح والارهاب، فان ثمة من رأى في هذا التطور أبعادا اكثر خطورة، اذ ان من الواضح ان الجماعات المسلحة تبعث عبر هذا التصعيد برسائل الى من يهمه الامر جوهرها انها ليست في وارد التخلي عن ساحة عرسال وما تمثله بالنسبة اليها من ورقة قوية عسكريا وسياسيا، وهي رسالة موجهة بالدرجة الاولى الى قيادة المؤسسة العسكرية التي اجرت في الآونة الاخيرة على الارض اكثر من اختبار تحد عنوانه العريض ان الجيش في وارد الاقدام على افعال واجراءات ميدانية من شأنها تعزيز حضور هذا الجيش وامساكه التدريجي بالوضع لاستعادة ما فقده من جهة وتقوية الاوراق التفاوضية للدولة من جهة اخرى.
وعليه، ثمة من يرى ان المسلحين زجّوا في سبيل ذلك وللمرة الاولى بورقة مخيمات اللاجئين متجاهلين ما يمكن ان يكون لذلك من تداعيات على عموم اللاجئين السوريين في كل المناطق اللبنانية، وعادوا ايضا الى توجيه سهامهم السياسية والاعلامية الى صدر المؤسسة العسكرية، واستطرادا الى الضغط على توازنات الساحة اللبنانية من خلال العزف على "وتر السنة" لإظهار انهم يحظون باحتضان هذه الشريحة من النسيج الوطني.
واللافت ان التصعيد في عرسال أتى متزامنا مع تصعيد اكبر في طرابلس والشمال وهو تجلى في اطلاق النار على مراكز ودوريات الجيش مما تسبب باستشهاد عسكري وجرح آخرين، ومورست، ربما للمرة الاولى منذ اعوام، عملية خطف لعناصر امنية واحتجازهم لبعض الوقت. وسبق ذلك تعرض متكرر لضباط من الجيش في طرابلس مما حدا بهم الى نزع شارات رتبهم قبل دخولهم الى مراكزهم او لدى خروجهم منها تلافيا للاشكالات.
وقد رفعت هذه التطورات وتيرة المخاوف ومنسوب الهواجس التي راجت خلال الايام الماضية وتحدثت عن عملية اعداد وتجميع منظمة لمجموعات شبابية في بعض الاحياء الطرابلسية الشعبية لتكون بمثابة خلايا جاهزة للتحرك غب الطلب الى درجة ان البعض ذهب في رحلة تخوفاته الى حد استعادة المشهد المفاجئ لسيطرة المسلحين على مدينة الموصل العراقية ذات يوم من شهر حزيران المنصرم.
ومهما يكن من امر هذه المخاوف المشروعة في زمن التمدد "الداعشي"، فان ثمة استنتاجا لدى الدوائر المعنية برصد الموقف مبنيا على ان هنالك علاقة منظمة بين ما تشهده عرسال من تصعيد وبين ما يسجل في عاصمة الشمال من توتير وهو اشبه ما يكون بلعبة العزف على الاوكورديون، ويرمي الى الآتي:
- الايحاء لمن يهمه الامر بأن المجموعات الارهابية المسلحة ليست في وارد كف شرها وسحب ظلها الثقيل عن الساحة اللبنانية، وان ما باشرته في 2 آب الماضي مستمر الفصول بطرق شتى وأنماط متعددة.
- إن عملية الربط الدقيقة التي أجرتها المجموعات المسلحة بين الساحة اللبنانية وما بين ساحتي العراق وسوريا مستمرة وازدادت الحاجة اليها في لحظة بدء هجمات التحالف الدولي على مواقع "داعش" في كل من سوريا والعراق، اذ ان الساحة اللبنانية كانت في ما مضى معبرا للمجموعات المسلحة ويمكن ان تكون من الآن فصاعدا ملاذا اذا ما ضاقت بها الساحات الاخرى وتصاعدت غارات التحالف الدولي واضطرت تركيا الى سد منافذ حدودها مع سوريا اذا ما دخلت جديا في التحالف الدولي، لا سيما اذا ما حصلت على الاثمان العالية التي تطلبها بغية الخروج من حال ترددها والانضمام جديا الى التحالف.
- ولا ريب ان ثمة رسالة اخرى تريد هذه المجموعات الارهابية ان توجهها الى السلطة اللبنانية بكل مستوياتها، وجوهرها ان عليها الا تذهب بعيدا في ممارسة الضغوط على مجموعاتها في لبنان وفي شن حرب حاسمة عليها.
ولم يعد خافيا ان ثمة من يرى ان هذه المجموعات تتكئ دائما في الساحة اللبنانية على دفرسوار سياسي مهمته المعلنة ايجاد تبريرات واسباب مخففة لممارسات هذه المجموعات وحرف الانظار عما ترتكبه من جرائم في حق اسرى الجيش لديها من خلال التركيز على ما سمي "ذبح عرسال" وهو ما دفع قيادة الجيش الى النفي وتوضيح الصورة.
ومهما يكن من امر، فالواضح ان المؤسسة العسكرية ماضية في خطتها وهي مستعدة لكل الاحتمالات وفي مقدمها ان لا مكان للارهاب.