في ذاكرة كل فرد من جيل الخمسينات والستينات من القرن الماضي رجل دين اختصر له الاسلام باسلوب طريف لكي يقطع عليه سبل الشيوعية والاشتراكية وبالتالي الالحاد. كانت التوبة عنوانا رئيسيا، باعتبارها ميزة اسلامية فريدة، لا وجود لها في بقية الاديان السماوية. فلسفتها بسيطة، او هكذا كان يشرحها السيد: ان الخالق يقبل توبة المسلم حتى على فراش الموت، المهم ان يستبق المذنب او الفاسق او الفاجر او الزاني موعد رقوده على ذلك الفراش، لا ان يدركه الموت فجأة، قبل ان يتوب.

كان هذا هو الدرس الاول، الذي ألقاه السيد على جيل يساري كامل، من دون ان يتمكن من منعه من الانحراف عن الصراط المستقيم، فقرر ان يتوقف عن الوعظ والارشاد الديني، والسير مع ذلك الجيل الجارف حتى النهاية، ما أدى الى تلطيخ جبته وعمامته السوداء اكثر من مرة، باللون الاحمر، سواء من دم المتظاهرين من مزارعي التبغ المطالبين بالعدالة الاجتماعية،ثم الطلاب والموظفين المنادين بتغيير النظام الطائفي، ثم المقاومين الذين ارادوا تحرير فلسطين من الجنوب.. فانتهى بهم الامر في المنافي.

في تلك الفترة، كان السيد يسعى الى اقامة جسر للثورة الفلسطينية مع ثورة ايران الخمينية، من دون ان يتخلى عن هويته اللبنانية ولا هواه العربي، ومن دون ان يكون مستشارا لاحد في طهران، بل مجرد ضيف محترم على الجميع، لا تستهويه ذلك القرب المستجد بين السلطة الايرانية وبين النظام السوري، الذي كان حسب تقديره، وتقدير جيل كامل، (ولا يزال)، طعنة في ظهر المقاومة، وفي ظهر العروبة، وفي ظهر أي مشروع وطني لبناني. فقد “ردعت” دمشق جميع المشاريع التي حاولت احياء الوطنية اللبنانية، وحولت الجنوب والطائفية الشيعية تحديدا الى فرقة محاربة في خدمة المفاوض السوري والايراني، وشريحة مسلحة في وجه بقية الطوائف اللبنانية.. واخيراً الى قوة مقاتلة دفاعا عن نظام الاسد.

لم يكن السيد ضد السلاح الذي يدافع عن الحدود ويحميها من غدر العدو الاسرائيلي، لكنه كان كارهاً لحفلات الزجل التي نظمت بعد تحرير الجنوب في العام 2000، ولا تزال تنظم، لمقاومة بمفعول رجعي، تستمر من دون أرض محتلة ومن دون أسرى، ومن دون طلب التفاوض، المحرم اصلا، عنده، وعند الجنوبيين واللبنانيين عامة. كان يخشى ان المقاومة اصبحت مهنة، وظيفة، تكبر وتصغر، تنتهي الى تقاعد، لا يرمي السلاح، لكنه لا يشهره ولا يُقدسه، ولا طبعا يرسله الى سوريا.

كان العتب شديدا على نصوصه الاخيرة التي استبطنت رغبة في الانسحاب اللبناني من الحرب السورية القذرة بكل ما للكلمة من معنى: كيف يا سيد تطلب او حتى تتوقع ان يعودوا من سوريا التي سلحتهم ودربتهم واطلقتهم على مدى اربعين سنة في شتى انواع المعارك والعمليات العسكرية والامنية؟ انها فرصة تاريخية، يا سيد، ان يكونوا هناك وان يبقوا هناك، وأن يلتحق بهم كل من حمل هذا النوع من السلاح المشبوه والمشؤوم والخطر على الامن الوطني وعلى الجنوب ايضا. لكن السيد، للاسف، كان يريد خروجا سالماً للجميع، لا للشيعة فقط، من تلك القذارة، لان في ذلك مخرجا للبلد من كارثة مقيمة منذ حزيران العام 1976 حتى اليوم.

لكن الفرصة لم تضع بعد.ما زال هناك أمل في ان تجرف تلك الحرب السورية كل ما انتجته تجربة العقود الخمسة الماضية من تشوهات في التكوين اللبناني المشوه أصلا، وان تفتح الطريق امام مستقبل لبناني وسوري مختلف، بلا زيف ولا ادعاء، وبلا كذب ولا نفاق، سواء من جانب عشاق ذلك النظام الذي دمر البلدين معا، او من جانب محاربيه الجدد الذين يبزونه وحشية.

… ثمة جيل كامل، يبكي الان، السيد هاني فحص، ويتذكر الدرس الاول في الدين، ويكتشف أنه لم يعد هناك وسيط واحد يمكن ان يشهد على طلب التوبة.