تنظيم "داعش" هو مولود همجي للفكر الإسلامي الأصولي مثلما تحوّل صدام حسين إلى إفراز همجي للفكر القومي العربي، وتنظيم "داعش" هو مهزلة مأساوية لنظام حكم مثلما تحوّل معمّر القذافي إلى مهزلة مأساوية لـ"نظام حكم".
"داعش" هي الجيل "الشاب" المتوحًّش للسلالة الإسلامية الأصولية المعاصرة التي تبدأ بحسن البنا وتمر بالفكر الإسلامي الإيراني. كان الأصوليون الأوائل، سنةً وشيعة، تكفيريّين بحكم جِدّة الدعوة العقائدية وصلابتها لكن التجربة السياسية خفّفت تدريجياً من الشِدّة التكفيريّة وخفّفت من الإيمان بالعنف.
نبدأ بهذه المقدّمة لا لنقارن بين "حزب الله" من جهة و"داعش" و"النصرة" من جهةٍ أخرى في الصراع الراهن لأن المقارنة من حيث التشدّد التكفيري والتعصّب الأعمى القاسي تجاه الغير ستكون مقارنةً مفتعلة وخاطئة.
لكن بالمقابل علينا أن نقول بوضوح ان المقارنة الفكرية بينهم جائزة حين يتعلّق الأمر بمسألة المصدر الرئيسي لكل الحركات الأصولية. وهذا يشمل الفروع الرئيسيّة والفرعية لكل تجربة الإسلام الأصولي السنّية والشيعية، الإخوانية والوهابية والخمينية في الثمانين عاماً ونيّف الماضية ولا سيما في الخمسة وثلاثين عاماً المنصرمة.
حين نتناول الفكر الأصولي علينا أن نكون حاسمين بأننا نتناول مدرسة فكرية معاصرة. فخلافاً لادعاء الأصوليّين أنهم يتحدّثون باسم العقيدة الأصلية هم في الواقع ينتمون إلى قراءة جديدة للإسلام وُلِدت في القرن العشرين باستثناء فرع واحد وُلِد في القرن الثامن عشر هو الحركة الوهابية وهي أيضاً ولادة متأخّرة. فمثلما استندت الحركة الوهابية على المذهب الحنبلي لتبرير تشدّدِها العقيدي فإن الأصولية الشيعية الإيرانية استندت على المذهب الجعفري لتبرير تشدّدها. لكن نظرية "ولاية الفقيه" ليست من صلب العقيدة الشيعية التي أرساها الإمام جعفر الصادق. ولذلك حين يقول الأصوليون الشيعة أن المساس بنظرية "ولاية الفقيه" هو مساس بالعقيدة فهم في الواقع يختبئون وراء الشرعية المذهبية الجعفرية التقليدية لإضفاء طابع القداسة على نظرية "ولاية الفقيه" التي هي، على كل أهميتها الاستقطابية، نظرية سياسية معاصرة حول الإسلام وليست في صلب العقيدة، تماما مثلما يتّكئ "الإخوان المسلمون" على الشرعية العقيدية التقليدية للإسلام لتصوير المساس بهم وكأنه مساس بالدين الإسلامي نفسه. يُشار هنا إلى أن الأصولية الشيعية الأولى تمثّلت بـ"حزب الدعوة" العراقي الذي تأسّس في أواخر الخمسينات من القرن المنصرم وهو الحاكم اليوم في بغداد موالياً للنفوذ الإيراني الممثّل للأصوليّة الشيعية الثانية التي أصبحت مسيطرة على البيئات الشيعيّة في العالم العربي كما على أصوليّاته ومنها "حزب الدعوة".
ظهر أخيراً مصطلح "الفاشية الدينية" في بيان لمثقفين عرب. مشكلة البيان انحيازه السياسي في الصراع الإقليمي السعودي الإيراني مما منع استخدام هذا المصطلح المهم في وجهة أشمل تتصدى للفاشية الدينية التي استفحلت في السيطرة على حياتنا العامة. آن الأوان لتسمية العديد من أنماط السيطرة الأصولية في العالم المسلم بـ"الفاشية الدينية" باعتبارها نمط سيطرة حديثاً هو جزء من نتاجات ثقافة العولمة التي يخرج منها التيار الأصولي. وباستثناء تركيا كل أنماط الحكم الأصولي القائمة تحمل بذور ومظاهر الفاشية وعلى رأسها القمع الشعبوي. حتى في تركيا تُظهِر انحرافات قيادة رجب أردوغان الشعبوية خطر استخدام نظام ديموقراطي في مسار تسلّطي.
شهدنا فاشيات مختلفة منها الفاشية القومية التي استندت على الحكم العسكري لتطويع المجتمع أكثر مما كانت شعبوية بذاتها. وفي لبنان لدينا تجربة الفاشية الطائفية سواء حملت فكراً دينياً أم لا وأغلبها لا يحمل. لكن الفاشية الدينية التي ولّدتها التيارات الأصولية هي اليوم أداة انهيار مجتمعاتنا من حيث ما آلت إليه في إدخالنا الحروب الأهلية.
المعركة إذن على المستوى الفكري واضحة وهي إعادة تقييم كل تجربة الإسلام الأصولي المعاصرة ونقدها حتى لو كانت الأمور على المستوى السياسي معقّدة بحكم تداخل التحالفات التي تجعل التصنيف والاختيار صعبين أحياناً بل في معظم الأحيان.