من الصعب أن يفهم المسيحيون المشارقة، بمن فيهم المسيحيّون اللبنانيّون رغم أنهم الأقل تعرّضاً للخطر منذ انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، في زمن انهيار المجتمعات المشرقية مطالبةَ البعضِ لهم، وهم الذين يعيشون ذروة وضعهم كأقلية، بالتصرف على أنهم ليسوا أقلية وأنهم لا يحتاجون إلى أي حماية.
تجدّدت في الآونة الأخيرة في لبنان، المكان الأبرز الباقي في المشرق الشامي العراقي لمناقشات صريحة حول البنية الطائفية للمنطقة، تجدّدت دعوة المسيحيّين العرب إلى عدم التصرّف كأقلية. إنها دعوة الأقلية لكي لاتكون أقلية! مع أنها ليست أقلّيّةً فقط بل هي أقليّة ذات مسار تاريخي انقراضي يبلغ ذروته الفضائحيّة اليوم!
تصدر هذه الدعوة من مصدرين متداخلين:
الأول هو بقايا إرث مشاريع دولة المساواة على أساس مواطنيّة الفرد في الدولة، وهذه مشاريع لا تزال تتمسّك بها، ولا تستطيع إلا أن تتمسّك بها، نخبٌ ليبرالية ويسارية وعلمانية في المشرق العربي الآسيوي وفي المقدمة منها نخب مسيحية في لبنان.
أما المصدر الثاني فهو ناتجٌ عن مستلزمات الصراع الإقليمي بحيث أن المنخرطين المسيحيّين اللبنانيين في 14 آذار يعتبرون أنفسهم متحالفين مع الأكثرية السنية في المنطقة عبر تحالفهم مع الحزب الطائفي الرئيسي للسُنّة اللبنانيّين ذي المرجعية السعودية في مقابل خصومتهم مع الحزب الطائفي الرئيسي للشيعة اللبنانيّين ذي المرجعية الإيرانية. ودعوة المسيحيين لعدم التصرّف كأقلية هي إحدى صيغ تبرير التحالف ضد الخصم الإيراني وحلفائه الذين يتبنّون ضمناً في سوريا ولبنان سياسة "حلف الأقليات" كأحد مستويات تبرير تحالفاتهم.
ما أطمح إليه في هذه المناقشة هو إخراج التوصيف السياسي للمسيحيين عن شعارات الصراع الإقليمي أو شعارات الارتباط اللبناني بالصراع الإقليمي لأن التوصيف يتعلّق بمدى واقعية السياسة أو عدمها.
المسيحيّون أقلية وهم يتعرّضون للاضطهاد في العراق وسوريا وإسرائيل بصفتهم أقلية، خصوصا حين ينتقل الاضطهاد من مستوى الدولة إلى مستوى المجتمع. صحيح أن المشرق الشامي العراقي ينخرط في حرب أو حروب أهلية طائفية شاملة في ظل التجييش السني الشيعي الأقصى، وصحيح أن الضحايا من قتلى أو جرحى أو مهجّرين أو نازحين هم بالملايين من مختلف الطوائف في سوريا والعراق وأن الضحايا المسيحيين بينهم أقلية عددية أيضاً... لكن كل هذا لا يحول دون الاعتراف بخصوصية مسيحية مشرقية في الوضع الراهن ناتجة عن كون وجود المسيحيين بكامله مهدّدا في العراق وبعض سوريا مما يعني أنها أزمة خطر وجودي (مع بعض الأقليات الصغيرة جداً كالأيزيديين وغيرهم) قد تتحوّل خلال جيل أو جيلين إلى خطر انقراض حصل أصلاً أو شبه حصل في العراق وإسرائيل. هذا ناهيك عن الخسارة التاريخية المحقّقة التي شهدها العالم العربي في الستين عاما الأخيرة وهي انقراض الوجود اليهودي بكامله من المدن العربية للمرة الأولى منذ الفتح الإسلامي خارج الجزيرة العربية وهو الانقراض الذي أدى إليه تأسيس إسرائيل في المنطقة.
من الصعب أن يفهم المسيحيون المشارقة، بمن فيهم المسيحيّون اللبنانيّون رغم أنهم الأقل تعرضا للخطر منذ انتهت الحرب الأهلية اللبنانية والتي امتدت بين 1975 و1990، من الصعب أن يفهموا في زمن انهيار المجتمعات المشرقية مطالبةَ البعضِ لهم، وهم الذين يعيشون ذروة وضعهم كأقلية، بالتصرف على أنهم ليسوا أقلية وأنهم لا يحتاجون إلى أي حماية خارجية. ما هو فعلاً رأي هؤلاء المسيحيّين المشارقة في الكلام السليم في السابق وقبل انحلال عددٍ من دول المشرق الذي يقوم على اعتبار "الدولة" كدولة هي الحامية الطبيعية والقانونية لهم كمواطنين؟ هل لا زالوا يعتبرونها بالقوة نفسها في سوريا والعراق وحتى الأردن مع أن مسيحيي لبنان "كفروا" ذات يوم في السبعينات بقدرة الدولة على الحماية؟ الدولة هي دائماً الخيار العقلاني الأفضل ولكن ماذا عن الدول المنهارة أو المتفكِّكة؟
أتيح لي الأسبوع الماضي أن ألتقي في بيروت، كلا على حدة، زائرا رسميا أوروبيا هو عضو في أحد البرلمانات وديبلوماسيَّيْن أوروبيَّيْن ولاحظتُ أن أياً منهم لم يعلّق سلباً أو إيجابا حين قلتُ لكل منهما أن النخب السياسية والإعلامية والثقافية اللبنانية والعربية مجمعةٌ على الاعتقاد الجازم والمستنكِر أن التحرك الغربي لإيقاف وضرب "داعش" ما كان يمكن أن يحصل لولا أنْ تعرّضت أربيل عاصمة إقليم كردستان للخطر العسكري الداعشي بينما لم يُحرِّك أحدٌ ساكنا قبل ذلك عندما طُرِد مسيحيّو مدينة الموصل وجزء كبير من سهل نينوى. أحدهم اعترف بالتأثير السيّئ لتصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي أعلن استعداد فرنسا لاستقبال مسيحيي العراق المطرودين واعتبره خطأً جسيماً لأنه أعطى الانطباع يومها عن غض نظر إنْ لم يكن موافقة الغرب على استئصال المسيحيين.
دعوة المسيحيين المشارقة لعدم التصرف كأقلية هي دعوة ينقصها "فقط"وجود دول قادرة على التصرف كدول، وما أخطر وأبأس هذه الـ"فقط"... إنها دعوة، رغم النوايا الحسنة، غير واقعية وهي أحد مظاهر حالة الإنكار المؤذية (راجع مقالتي: "حالة إنكار مؤذية" 6 أيلول 2014).
التأكيد على أولوية الدولة، كما يستلزم الوضع اللبناني، لا يعني نفي صفة الأقلية ومسؤوليات هذه الصفة.
موقفي هنا هو اعتراف بتعقيد المعضلة وليس جواباً عليها. الاعتراف ضرورة لأي معالجة وعدم الاعتراف هو مفاقَمة لها.
المشرق بكامله ينهار لكن لا ضير في القول ان المسيحيين حالة خاصة داخل هذا المشهد وانها بين مكونات الانهيار قد تكون أكبر الخسائر التي لا تُعوَض ديموغرافياً وبالتالي حضارياً.