الأخطر هو أنّ الجميع بدأ يعتاد على جمهورية بلا رئيس. فـ«مجلس الوزراء مجتمعاً» هو المجلس المِلّي، وأيّ مرسوم يحتاج إلى توقيع أعضائه جميعاً ليصبح نافذاً. إذاً، الحكومة كافية لتمثيل الجميع في السلطة التنفيذية، والمجلس المُمدَّد له كافٍ لتمثيلهم في السلطة التشريعية، فما هي الحاجة إذاً إلى رئيس الجمهورية؟
لا إتفاق سعودياً- إيرانياً. لذلك، لا إتفاق سنّياً- شيعياً في لبنان. ولكنّ الطرفين المحليين يديران الأزمة بالصفقات الصغيرة، على طريقة الحكومة السلامية والتمديد للمجلس النيابي. فإذا ما جاءت التعليمات يوماً، يتوافقان على «الكبيرة» أيضاً، فيأتيان برئيس الجمهورية المسيحي في سلة مذهبية واحدة.ولم يعد ذوو الشأن مضطرّين إلى الإتقان في إخراج مسرحياتهم، لأنّ لا مَن يحاسب ولا مَن يعترض. وقبل عام، بذل هؤلاء جهوداً حثيثة ورسموا الخطط لتمرير التمديد الأول للمجلس النيابي. أما التمديد الثاني فيأتي هادئاً ومبارَكاً، ولا حاجة إلى تبريره، ولو شكلياً.
ويسوِّق كثيرون نظرية الظروف الأمنية القاهرة، كدافع للتمديد، ويقتنع المسيحيون بها أيضاً، علماً أنّ الأسباب الأمنية المزعومة لتعطيل الإنتخابات تتحمَّل الكثير من وجهات النظر. ونيَّة التمديد كانت قائمة منذ ما قبل موجة «داعش» بكثير، والأرجح منذ التمديد الأول للمجلس.
ففي العام 2005، في ذروة التأزّم بين «8 و14»، وحين كان أركان «14 آذار» والأمنيون يُستهدَفون كالعصافير، وكانت مناطق عدة مهدَّدة بالعبوات الناسفة، جرت إنتخابات نيابية. كما جرت لاحقاً إنتخابات نيابية وبلدية على رغم أحداث كبرى (حرب تموز 2006، نهر البارد 2007 و7 أيار 2008، وفي ظلّ أزمات مذهبية خطرة بين 2009 و2010).
ويجزم البعض بأنّ لبنان قادر، اليوم، على إنجاز إنتخاباته النيابية من الناحية الأمنية، باعتراف مسؤوليه الذين نظّموا قبل أشهر قليلة، حملة لتسويق لبنان سياحياً وإقناع الخليجيّين بأنّ لبنان هو الأفضل أمنياً في المنطقة.
وتُكذِّب السلطة نفسَها بنفسِها عندما تدَّعي سعيها إلى تنظيم وجود اللاجئين في مخيمات حدودية، ثم تعلن أنها عاجزة عن تنظيم انتخابات نيابية. فهل تستطيع توفير الأمن لتجمُّعات الأطفال والنساء والشيوخ اللاجئين بعشرات الألوف، فيما تعجز عن توفير الأمن لمواطنين لبنانيين، بتجمعات صغيرة نسبياً، في المدن والقرى والبلدات، أمام صناديق الإقتراع؟
وكان مسؤولون رسميون لبنانيون أعلنوا أنّ العراق يعيش ظروفاً أمنية أشدّ سوءاً من الوضع اللبناني. وعلى رغم ذلك، جرت الإنتخابات التشريعية هناك.
وإستطراداً، ثمّة مستتبعات قانونية كثيرة لذريعة العجز الأمني. مثلاً: إذا كان منسوب الأمن يمنع الإنتخابات، فهل يمنع السلطة أو المواطنين من أداء واجبات أخرى؟
هل يحق للدولة أن تحاسب مواطناً من طرابلس أو عرسال أو أيّ منطقة متوترة إذا تخلَّف عن أداء واجباته الضرائبية أو سواها، مستخدماً منطق الحكومة إياه، أي ذريعة الظروف الأمنية القاهرة؟
هذه الأسئلة تمرّ بلا أجوبة. لكنّ الصفقات السنّية - الشيعية الصغيرة و»الموضعية» مفروضة أمراً واقعاً، ويَمشي فيه المسيحيون محاولين تحصيل بعض الأرباح. وبعد صفقة الحكومة السلامية، جاءت صفقة التمديد للمجلس.
ولو كان يُراد للإنتخابات الرئاسية أن تجرى، لكانت ذهبت في سلة واحدة مع هذا التمديد. ولكن لا السنّة ولا الشيعة سيحرقون أنفسهم من أجل تمرير استحقاق الرئاسة، إذا كان أصحابه الشرعيون، أي المسيحيون، هم الأكثر إستهتاراً به.
ويجدر السؤال مثلاً: كيف يقوم حلفاء العماد ميشال عون بتجاوزه في رفضه التمديد للمجلس النيابي، فيما هم يراعونه إلى حدٍّ مستهجن في تعطيله الإنتخابات الرئاسية؟
وحتى إشعار آخر، يمارس المسيحيون دوراً محدّداً: ينتظرون اكتمال الصفقات السنّية- الشيعية، فيلتحقون بها، ويقولون: «مبروك»!
فمبروك لهم أيضاً!