أقرّت الولايات المتحدة فجأة بحقيقتين، الأولى: دور إيران النافذ في العراق، انطلاقاً من أنّ التحالف الدولي لا يمكن أن ينجح في مخطّطه بمعزل عن طهران، والتنسيق المباشر معها. والثانيّة: أنّ مقاربة الملف السوري من زاوية أنّ الولايات المتحدة هي مَن يمسك زمام الأمور ويُوزّع الأدوار، إنما هي مقاربة مبتورة، ولا ترقى الى مصاف الموضوعيّة إلّا بعد التنسيق والتشاور مع إيران التي تحتفظ بأوراق كثيرة.
حقيقتان فرضتا على واشنطن إعادة التواصل مع طهران، وكلّفت نائب وزير الخارجيّة وليام بيرنز الجلوس الى الطاولة مع الإيرانيين في نيويورك، للوصول الى تفاهمات، بعدما أدّى السجال السياسي غرضه عبر وسائل الإعلام. عندما رفض المرشد الأعلى علي خامينئي عرضاً أميركياً بالتعاون العسكري لمحاربة التطرّف السنّي المتمثّل بـ«داعش»، إنما كان يقطع الطريق على أمرين: تفادي الحساسيات المذهبيّة، لكي لا يقال إنّ الشيعة يذبحون السنّة بالتكافل والتضامن مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي.ثمّ الحرص على «إستقلاليّة» الدور الإيرانيّ في المنطقة، حتى لا يُقال إنّ طهران تتلقى الأوامر من واشنطن، أو إنها تتعهّد تنفيذ الإستراتيجيّة التي رسمها «الشيطان الأكبر» لمصير ومستقبل دول المنطقة.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الجانب الإيراني غيرُ متحمّس للجلوس الى الطاولة مع الأميركيّين إلّا وفق الأجندة التي يحملها، لأنه يرى أنّ واشنطن قد أعلنت إستراتجيتها لمكافحة الإرهاب، ورتّبت أوراقها وأدوارها، وأنجزت التحاف الدولي العريض، ووزّعت الأدوار على تركيا والسعوديّة ودول الخليج، ودفعت بمجلس النواب الى التصويت على قرار يقضي بمدّ المعارضة السورية المعتدلة بكل ما تحتاجه من أسلحة وخبرات،
وكأنّ المطلوب من محادثات نيويورك أن تأتي طهران لتبصم على كل ما اتخذته إدارة الرئيس باراك أوباما من تدابير وإجراءات، وهذا توجّه لا يمكن للقيادة الإيرانية الموافقة عليه، لأنّ المسألة تنحصر في نهاية المطاف بالدور المتروك لها في كلّ من العراق وسوريا ولبنان، ومصير النظام السوري، وأيّ مستقبل له، ومصير «حزب الله» سواء في القلمون او خارجها والدور الذي سيُترك له على الساحتين اللبنانية والسوريّة.
والحزب في استنفار دائم هذه الأيام سياسيّاً وعسكريّاً. زيارة العماد ميشال عون الى كليمنصو لا«يستهضمها» كثيراً. لم ينسَ بعد قول جنبلاط إنّ الدروز والمسيحيين هما «ملح لبنان، ومنذ مئات السنين».
عاد الوطن الى مربع الكيانيّة، ومن الباب العريض. حزب يرفع إصبعه في وجه رئيس الجمهورية، ويقول لا لسياسة النأي بالنفس، ويذهب الى القتال داخل سوريا قافزاً فوق الجمهورية بمقوّماتها المادية والمعنوية، وبلا إستئذان أحد، إنّما يطرح مسألة الوطن والكيان والنظام والدور والماهيّة على بساط البحث، وإلّا ما الجدوى من إنتخاب رئيس إذا كان الحزب هو الذي يقرّر، وهو الذي يجرّ الجمهوريّة عن بكرة أبيها الى حيث يريد.
كلام الرئيس سعد الحريري عن الإنتخابات الرئاسيّة، يخشاه الحزب في هذا التوقيت بالذات حيث الصحوة الدوليّة - الإقليميّة عامة لجهة تعويم سنّة الإعتدال. يخشى الحزب من أن يتحوّل الإعتدال السنّي «بيضة قبّان» في تقرير مصير الإستحقاقات الدستوريّة، لا بل في تقرير مصير ومستقبل الجمهورية.
تلتقي دعوة الرئيس سعد الحريري مع مؤشرَين: الأول دولي، حيث ارتفعت أصوات داخل مؤتمرَي جدّة وباريس تقول: «كيف يمكن للبنان أن يواجه الإرهاب بلا رئيس للجمهورية، وبوجود جيش يفتقر الى الأسلحة، وفي ظلّ شبه فراغ على مستوى السلطات الرسميّة كافة، وانفلات غير مسبوق للغرائز السياسيّة، وللفساد؟!».
والثاني: محلي حيث ارتفعت أصوات ديبلوماسيّة أوروبيّة - غربيّة تؤكد أولوية الإنتخابات الرئاسيّة، وتحذّر من إرباك الجيش في الإنتخابات النيابيّة في الوقت الذي يُفترض فيه أن يبقى مستنفراً على الحدود.
لا يمكن الجزم بأنّ الدخان الأبيض سيخرج من مدخنة المحادثات الأميركيّة - الإيرانيّة، لكنّ إنطلاقتها ربما تعني إنطلاقة حركة واسعة من الإجتماعات والإتصالات لترتيب كثير من الأوضاع المأزومة في المنطقة، وضمناً الوضع اللبناني.