شهد التاريخ سلسلة من الصراعات الدينية والمجازر الدموية كالتي حصلت بين المسيحيين أنفسهم أو بين المسلمين أنفسهم بنوازع سياسية مستترة تحت غطاء الدين وشعاراته، إلا أنَّ العلاقات المسيحية- الإسلامية بقيت خلافيّة كامنة أو متجاهرة ولا تخلو من مشاحنات ومماحكات وسفاهات تنطلق من غرائز إثبات الذات بتسفيه الآخر المختلف وتكفيره، وهو الأمر الذي فتح شهيَّة اللاعبين والمستثمرين في الدين وتوظيفه في تجييش المذاهب والطوائف بعضها ضدَّ بعض فيما شهدناه من مناخات الحروب الباردة والساخنة حتى بروز العدوان المكشوف على المسلمين والمسيحيين ومقدَّساتهم في غير مكان من العالم... من الفليبين ونيجيريا وصولاً إلى الفاجعة الوطنية في الموصل ونينوى وسنجار وسواها من الانفجارات التي كانت ملغومة في مناهج التعليم والكتب الدراسية.
وبذلك يسعني القول: إنَّ تشويه الصورة الحقيقية للإسلام وللمسيحية قد ساهم وبقسط كبير في تعميق الخصومة والانقسام بين المسيحيين والمسلمين، باعتبارها ضرورة سياسية لمصلحة المواجهة التي بدأت إرهاصاتها بين أوروبا والإسلام لتمتدَّ في الراهن المعاصر إلى إقحام الأديان بجميع مذاهبها وطوائفها في لعبة الأمم التي ختمت قرنها العشرين بحديثها المختلق عن صدام الحضارات وأدواتها الإرهابية التي تمَّ تجهيزها وإعدادها على مدى عقود لا يمكن تجاهلها عند إثارة السؤال من خلفيات ما يجري الآن من أحداث دمويَّة مسلَّحة ترفع الرايات الدينيَّة المنزلقة إلى تطرُّف وعنف لا يمكن تحليل ظاهرته من دون الوقوف على محركاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تضرب المسيحية والإسلام في صميم الجوهر العميق من رسالتهما الإنسانية والأخلاقيَّة.
ولعلَّ من أخطر المفاصل التي شهدت توتراً بين المسيحية الغربية والإسلام هي في تلك البعثات والرسائل التي تمَّ تبادلها بين قادة الجيش الاستعماري الغربي وقادة المغول الغزاة إبَّان اجتياحهم لبغداد. فهل كان من قبيل المصادفة أن يجتمع الجيشان الغازيان على ضرب الكنائس والمساجد خصوصاً في الفترات الأولى من الغزو حيث عمد الإفرنجة والمغول على تأجيج الفتن المسيحية – الإسلامية من بغداد إلى دمشق إلى بيروت؟.
وما يعنينا من هذه الملاحظات هو اتصالها المباشر بأحداث القرن التاسع عشر، وما لابسها من أحداث وتطورات دفعت بالمسلمين والمسيحيين إلى أن يكابدوا معاً أخطر التحدِّيات الراهنة.. حيث انتهى المشهد السياسي إلى سقوط منطقة المشرق العربي ودخولها تحت مظلة الانتداب الفرنسي والبريطاني ، فظهر النظام الطائفي على المسرح العربي والإسلامي من جديد ليشكِّل مصدر توتر يعمل على تغذيته باستمرار الكيان الصهيوني بعد احتلال فلسطين, فلم يسلم المسيحيون في فلسطين من وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية ولم يسلم المسلمون والمسيحيون في المنطقة من مؤامرات التقسيم وإيقاد الفتن الأهلية، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من عدوان وحشيٍّ على المسيحيين والمسلمين ومقدَّساتهم.
ومن هذه النقطة بالذات يجب أن نواجه التحدِّيات الراهنة وفي مقدمتها مواجهة مشاريع تقسيم الشرق الأوسط وتمزيق شعوبه ونسيجه المجتمعي وهويته الحضارية من دون أن نهمل مواجهة مشاريع الإرهاب التكفيري والتطرف الديني والعنف الدموي الرامي إلى ضرب العلاقات الإسلامية – الإسلامية وإكراه المسيحيين وتهجيرهم من ديارهم وأوطانهم.
إنَّ تحصين الوحدة الوطنية وبناء الإنسان الأخلاقي النبيل كهدف محوري في رسالة المسيحية والإسلام لا يمكن أن يقوم على مجرد إطلاق الشعارات بل لا بد لنا في هذا المنعطف الخطر من تاريخنا المشترك من بناء الرؤية النقدية الشاملة تمهيداً لمبادرات إستراتيجية تنهي وإلى الأبد عناصر الاختلال والقلق والمخاوف المتبادلة وذلك عبر البرامج والوسائل العملية ولاسيما أنَّ الكثير الكثير من أزمات الواقع ومشكلاته ناجمة عن تعقيدات سوء الفهم المتبادل للمسيحية كما هي, وللمسيحيين كما هم، وللإسلام كما هو، وللمسلمين كما هم.
ومن مفاتيح الفهم والتفاهم نفتح الأبواب كلَّها لنحمي هويتنا الدينية من كل ضلال أو زيغ يهدد وحدة إيماننا وعيشنا المشترك.