يحمل اللبنانيون صورة سلبية عن وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر الذي تولى منصبه في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون منتصف السبيعنيات أي الحقبة التي إندلعت في أواسطها الحرب اللبنانية ودامت نحو عشرين عاماً، وليس خافياً دور الوزير المذكور في تسهيل الدخول العسكري السوري الى لبنان سنة 1976 لضرب الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، الأمر الذي رفضه كمال جنبلاط وقاومه بكل قوته الى أن تم إغتياله في 16 آذار 1977 لأنه كان يقف في مواجهة التسوية الأميركية- السورية- الاسرائيلية.
وإذ تناقض محاضر وزارة الخارجية الأميركية في حقبة بدايات الحرب اللبنانية الإتهامات التي سيقت ضد كيسنجر ورغبته بتقسيم لبنان، إلا أن الرجل ذاته يعترف أن إسرائيل كانت ترى أن تقسيم لبنان هو أفضل الحلول لها، في حين تنقل الوثائق عنه أنه أوصى مبعوثه الشهير دين براون "ببذل كل الجهود لتصب في إتجاه لبنان موحد".
هذه صفحات من التاريخ التي تبقى العودة اليها دائماً مفيدة. اليوم، بلغ هنري كيسنجر سنة الحادي والتسعين، وهو الذي كان هرب مع والديه من المانيا النازية سنة 1938 بإتجاه مدينة نيويورك. شكل الرجل علامة فارقة في السياسة الخارجية الأميركية، سواءً أيد المرء مواقفه أم رفضها. فهو صاحب نظرية المهادنة مع الإتحاد السوفياتي والإنفتاح على الصين بخطوة تاريخية غير مسبوقة، وهو الذي وضع حداً لحرب فيتنام التي أنهكت الولايات المتحدة الاميركية.
وإشتهر كيسنجر كذلك بأنه من أصحاب النظرية الواقعية في السياسة الخارجية، وإذ أيد أن ترفع الولايات المتحدة عناوين براقة تتصل بمبادىء عامة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات السياسية، إلا أنه ربط ذلك دوماً بالمصالح المبنية على الوقائع الميدانية على الأرض. وعلى سبيل المثال، أيد كيسنجر إسقاط نظام "طالبان" في افغانستان سنة 2001 ولاحقاً نظام صدام حسين سنة 2003، ولكنه رفض الانغماس الأميركي في مشاريع "بناء الدولة" لكل من أفغانستان والعراق، ووجه إتهامات لاذعة لإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش لتطبيق حملات عسكرية "مثالية" دون الإرتكاز الى وقائع عملية على الأرض!
ومن الأمثلة التي تسوقها مجلة "تايم" الأميركية الشهيرة في عددها الأخير حول القراءات السياسية لهذا الرجل توقعه التدخل الروسي لإنجاز تسوية للملف الكيماوي السوري قبل مباشرة أي عمليات عسكرية ضد النظام، وهذا ما حدث فعلاً، دون التأكد فعلا ما إذا كانت إدارة الرئيس أوباما جادة في تنفيذ ضربة عسكرية لسوريا.
ولا تخفي المجلة أن كيسنجر تأثر بشكلٍ أو بآخر بإتفاقيات السلام "وستفاليا" (Westphalia) التي عقدت سنة 1648 وأعادت الأمن والهدوء لأوروبا الوسطى بعد حروب ونزاعات دامية حيث وضعت حداً لحرب الثلاثين عاماً (1618-1648) الشهيرة في الامبراطورية الرومانية، وهي الإتفاقيات التي شملت الإمبراطور الروماني فرديناند الثالث مع آل هابزبورغ، وممالك إسبانيا وفرنسا والسويد والمدن الأخرى المستقلة.
أما اليوم، فينظر كيسنجر بقلقٍ الى التطورات الكبرى التي تمر بها منطقة الشرق الاوسط وهو يرى أن هذه الفوضى العارمة في المنطقة تم تسهيلها جزئياً من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي شجعت بشكلٍ أو بآخر تغيير الأنظمة والدفع في إتجاه تطبيق الديمقراطية وفق النمط الغربي في العراق وليبيا ومصر وافغانستان وسوريا. ولو أن جانباً من الشكوى ضد أميركا أنها لم تقم بما هو كاف لتغيير اﻷنظمة لا بل شكل ترددها غطاء ﻻعادة تعويم بعضها!
ولكن من نافل القول أن السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس اوباما تتمايز بين الدول، ولا يمكن القول أنها تنفذ مقاربات وسياسات واحدة تجاه كل تلك الدول. فالشكوى أنها لم تملك سياسة واضحة حيال الأزمة السورية وأنها نكثت بوعودها السابقة في دعم المعارضة المعتدلة لتغيير النظام، كما أنها تغاضت عن كل الجرائم التي إرتكبها بعد أن استولدت تسوية سياسية مع موسكو لإخراج السلاح الكيماوي السوري من داخل الأراضي السورية، في حين إستمر القتل بالبراميل الحارقة وشتى الأساليب الأخرى وصوﻻ إلى ما يزيد عن مئتي ألف قتيل وملايين المهجرين داخل وخارج سوريا. ناهيك طبعاً عن الخطأ التاريخي الذي تمارسه كل الادارات الأميركيّة المتعاقبة عبر سياسة المعايير المزدوجة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وأمنها ومصالحها.
وفي هذه المرحلة، يرى كيسنجر أن على الولايات المتحدة أن تشن هجوماً كاسحاً على تنظيم "داعش" على أن يكون ذلك الهجوم لفترة محدودة كإجراءٍ "عقابي"، ووصف أفعال التنظيم بأنها إهانة "لقيمنا ولمجتمعنا، تحتاج منا الى عملية انتقامية محدودة جدا"، داعياً الى "الكف عن الخوض في جدل قتالهم" والبدء في العمل فوراً. ولم ينس الوزير السابق أن يهاجم الرئيس الاميركي باراك اوباما قائلاً: "تحت رئاسة باراك اوباما أصبحنا متفرجين" في الشرق الأوسط، ورأى أنه ينبغي عدم التفريق في التعامل مع "داعش" سواءً كان في سوريا أو العراق، "وكان من المفترض أن نكون تعاملنا مع هذه المسألة منذ وقتٍ طويل".
هل ستنجح الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة في إعادة مسار الأحداث التي تتحمل مسؤولية كبيرة عن إنحرافها، الى مسارها الصحيح؟