رغم فجاجة الخطاب الذي ألقاه السيناتور التكساسي الجمهوري تتِد كروز، وهو أصغر أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي سنّاً، والذي دعا فيه مسيحيّي منطقتنا إلى التحالف مع إسرائيل كممثلة لليهود في وجه الإسلام، فإن هذا الخطاب فاضحٌ لنمطِ تفكيرٍ غربيٍّ عميقٍ يكشف الأفق السياسي الغربي أمام مسيحيّي الشرق وقيادتهم الفعلية الجدية الوحيدة وهي الكنائس.
علت أصوات رفض كلام السيناتور في القاعة وطلب بطريرك الروم الكاثوليك طرده منها، لكن ذلك لا يمنع عمق الحقيقة الغربيّة القاسية التي كشف عنها السناتور كروز.
هذه الحقيقة هي أن الغرب (باستثناء الفاتيكان) يقول للمسيحيين:
البحر الإسلامي وراءكم و”الصديق” الإسرائيلي أمامكم!
منذ تأسيس إسرائيل التحمت النخب المسيحية المشرقية الرئيسية بالقضية الفلسطينية كخيار طبيعي لانتمائها العربي بالنسبة للمسيحيّين العرب، وكخيار حاسم للدول الوطنية التي تعيش فيها بالنسبة للمسيحيين غير العرب.
لكن كما ظهر لاحقاً وبسرعة فقد كان تأسيس إسرائيل وبالاً على يهود المنطقة قبل أي فئة أخرى لأنه أدّى إلى واحدة من أكبر خسائر تنوّعِ شخصية المنطقة ولعلها الأشمل منذ الفتح الإسلامي وهي انقراض الجماعات اليهودية من كل العالم العربي ومعظم العالم المسلم. عاشت المدن العربية الكبرى من فاس إلى بغداد مرورا بالقاهرة ودمشق والعديد غيرها وبعض المدن المسلمة الكبرى ثلاثة عشر قرناً وثلاثة أرباع القرن والمكوّنان اليهودي والمسيحي (ما عدا معظم شبه الجزيرة العربية) جزء لا يتجزأ من صلب الحياة الاجتماعية. أدّى تحقيق “الحلم الصهيوني” بتأسيس إسرائيل إلى دينامية هجرة وترحيل لليهود العرب حتى انقرضوا تقريباً من حواضر العالم العربي خلال الستين عاما ونيف الأخيرة. هذه خسارة هائلة ومكتملة آن الأوان أن نبدأ بإعطائها كامل الأهمية التاريخية والاجتماعية والثقافية في وقت بدأت تظهر فيه بوادر نكبة أضخم هي التهديد الوجودي للمسيحيين في المنطقة ولا سيما بلاد الشام والعراق وبنسبة عددية أقل لأقباط مصر بسبب الضخامة الديموغرافية لتواجدهم قياسا بالأقليات الشامية والعراقية.
إذا كان مؤسِّسو إسرائيل قد ضحّوا بالوجود اليهودي العريق في العالم العربي على مذبح نجاح مشروع كيانهم فهل سيمتنعون عن التضحية بالوجود المسيحي؟!
علينا بالمقابل أن نعترف أن مشروع تأسيس إسرائيل البادئ حثيثا بعد سقوط الامبراطورية الإسلامية العثمانية قد عاد و”أَسْلَمَ” السياسةٓ العربية بسرعة لا سيما بعد نشوء الكيان الإسرائيلي عام 1948. فقد اتخذت الحركات الكبرى العربية التي وُلِدت كردٍ على النفوذ الغربي الإسرائيلي شكْلَ الدفاع الإسلامي عن المنطقة. وما كان المضمون العلماني للقيادات التي أفرزتها هذه الحركات ليغيِّر من حقيقة العصب الدفاعي الاسلامي. هذا ينطبق على الناصرية والبعث ولاحقا المقاومة الفلسطينية وحتى على الأحزاب الشيوعيّة العربية الملتحقة بـ”القضية الوطنية”. كل هذه الحركات التي كان يشارك في قيادتها مسيحيون بارزون وبعضهم أصحاب كاريزما لدى المسلمين العرب كانت في الواقع تعبّر عن دينامية ما يبدو أنه دفاع الإسلام العربي، وأحيانا غير العربي، عن نفسه. هذا ناهيك عن أن الوطنية التركية الجريحة بعد الحرب العالمية الأولى قد وجدت نفسها تصطدم، ومعها جماهيرها المسلمة، بالوطنيّتين اليونانية والأرمنية ومعهما جماهيرهما المسيحية وبمعزل عن التوزيع المعقّد للمسؤوليات في هذه الصدامات التي رسمت نتائجها جزءاً كبيرا من صورة الشرق الأوسط في القرن العشرين.
الرأي القائل بأن الوجود المسيحي يتناقص منذ فترة طويلة سابقة على وجود “داعش” و”النصرة” وغيرهما هو رأي صحيح. وقد ساهم المناخ السياسي العربي المتأزّم منذ تأسيس إسرائيل في ضغوط تناقص أعداد المسيحيين، والحربُ الأهلية اللبنانية شاهدٌ ملموسٌ ليس فقط على “أسلمة” القضية الفلسطينية وإنما أيضا على كيف يضع الصراع السياسي جماعاتٍ دينيةً وطائفيةً في مواقع تناقض مصالح وعصبيات رغم أن هذه الجماعات لا تحمل تجاه بعضها أساسا سوى الرغبة باستمرار التعايش.
لهذا ما يحدث اليوم مع الحركات التكفيرية مختلفٌ عن كل ما سبقه في العصر الحديث لأننا بتنا أمام قوى تحمل مشروعا استئصاليا لكل ما يختلف عنها. طبعا في خط “الأسلمة” الذي تصاعد في المنطقة كان لانبعاث التيار الأصولي السني والشيعي في أفغانستان وإيران في أواخر السبعينات دورٌ كبير في نقل “الأسلمة” من لونها القومي العربي “العلماني” إلى لونها الصارخ الديني. انتقالٌ تفاقمَ إلى درجة أن الأصولية “التقليدية” وَلَدتْ أو سمحت بولادة مخلوقات متوحّشة. ولهذا أي مراجعة للمرحلة الحالية، كما كتبتُ مراراً في الآونة الأخيرة، يجب أن تعود إلى مسألتين:
الأولى هي مسؤولية كل الفكر الأصولي عما وصلنا إليه.
الثانية هي المسألة الثقافية التي تستوجب فهمَ لماذا يتيح النص الديني استخدامه على الطريقة الداعشية وأخواتها.
… لا يستطيع المعنيّون المسيحيّون الذين اجتمعوا في مؤتمر مسيحيّي الشرق في واشنطن أن يتناولوا هذه المسائل الحساسة التي تبدو سياسياً في اللحظة الراهنة خارج نطاق أولوياتهم المتركزة – عن حق – على الخطر الوجودي الداهم. مع أن البطاركة المشارقة كانوا صريحين منذ فترة قصيرة في دعوة المراجع الدينية المسلمة إلى مواقف غير قابلة للالتباس ضد الاستخدام التكفيري للإسلام. وهذا ما صدر عن شيخ الأزهر منذ أيام.
إنها مهمة النخب المسلمة، المصرية والشامية والعراقية بشكلٍ خاص، أن تفتح نقاشاً نقديّا صريحاً حول موضوع علاقة السياسة بالدين وحول مسؤولية الراديكالية التي بلغتها مواقف بعض التيارات في ما يبدو ليس فقط استئصال أقليات بل أيضاً انهيار دول ومجتمعات.
فكرة عقد مؤتمر واشنطن فكرة مهمة جداً. المهم أن يَدخل المؤتمر السياسةَ الغربيةَ في منطقتنا بطريقة تسمح بالإضاءة النقدية على الجوانب المشبوهة من هذه السياسة والاستفادة من جوانبها الأخرى. لقد لعب الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية ورقة الإسلام السياسي طويلاً وأحياناً الإسلام المتشدّد كما حصل في فترة مواجهة الاتحاد السوفياتي. بدا الأمر مختلفاً بعد أحداث 11 أيلول 2001 من حيث التركيز على مواجهة الإسلام المتطرف. لكن العديد من التحوّلات يطرح أسئلة حول مدى جدية قرار المواجهة. اليوم واشنطن تتحدث عن حماية الأقليات. لنراقبْ تطبيقات الشعار وماذا يخبّئ وراءه؟