قبل أن يتحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما عن مهمات التحالف الدولي الواسع لضرب «دولة داعش»، كانت معالم الاستراتيجية التي ستُعتمد لدحر الإرهابيين واستئصالهم قد ظهرت، أولا من خلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه باراك أوباما مع خادم الحرمين الشريفين قبيل إعلانه حربا لا هوادة فيها ضد الإرهابيين، وثانيا من خلال وصول وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى العراق في طريقه إلى الاجتماع الإقليمي الدولي لمحاربة الإرهاب الذي نظمته السعودية في جدة.
من خلال هذا ترتسم معالم الخطوط العريضة التي تتشكل منها الاستراتيجية الدولية لاجتثاث التنظيمات الإرهابية التي تستند في شكل أساسي إلى التنسيق الأميركي - السعودي، من منطلق امتلاك أميركا القوة الجوية القادرة على تدمير مواقع «داعش» في العراق وسوريا وأينما كان التنظيم، تنفيذا للمبدأ الذي أعلنه أوباما «إذا هددت أميركا فلن تجد ملاذا آمنا»، وامتلاك السعودية الخبرة في محاربة الإرهاب الذي سبق أن انتصرت عليه، وهو ما دفع أوباما قبل أعوام إلى الإشادة بنجاحها.
هناك جملة من المؤشرات المهمة رافقت إعلان أوباما الذي صادف ذكرى 11 سبتمبر (أيلول)، توحي بأننا سنكون أمام جسرين للانقضاض على «داعش»؛ جسر للقصف الجوي المتصاعد والمتّسع تديره أميركا وسينتقل من العراق إلى سوريا مع ترميم صفوف مقاتلي المعارضة السورية المعتدلة، وجسر بري للدعم والإمداد والإسناد تم وضع خرائطه ومندرجاته ونقاطه في اجتماع جدة الذي حضرته عشر دول.
هذا يعني أن أميركا ستدير الكماشة النارية من الفضاء وأن السعودية ستدير كماشة الدعم على الأرض إضافة إلى المعالجات العميقة فكريًا وسيكولوجيًا التي تكفل اجتثاث هذه الظاهرة من السفّاكين والقتلة والمجرمين الذين اختطفوا الإسلام ومضوا بعيدا في تشويه صورته أمام العالم.
إلحاق الهزيمة بـ«داعش» وأخواتها لا يحتاج إلى جيوش جرارة في الميدان، لأن عمليات القصف الجوي المكثّف التي ستستهدف مراكزها وتصطاد قياداتها، ستضعفها بحيث تستطيع قوات البيشمركة الكردية أن تنظف الموصل وتخومها، في حين تقوم القوات العراقية بعد ترميم الجيش الذي انهار قبل شهرين بتنظيف نينوى.
أما في مناطق الوسط والأنبار فهناك أكثر من عشرين ألف مقاتل من رجال القبائل السنّية التي أعلن زعماؤها أنهم على استعداد لاقتلاع «داعش»، وقد سبق لهم أن ألحقوا هزيمة بـ«القاعدة» عبر «الصحوات»، التي قام نوري المالكي عبر سياسة الاستبداد بحلّها والتنكيل بها من منطلقات مذهبية، وهو ساعد في خلق البيئة التي أطلّت منها «داعش» من حطام «القاعدة» والبعثيين.
ولأن إيران كانت وراء المالكي ورعت سياساته الكيدية، تعمّد كيري بعد محادثاته مع حيدر العبادي وإبراهيم الجعفري وضع النقاط على الحروف، بعد تردد طويل والتباس محيّر في الموقف الأميركي، عندما أعلن بوضوح «أن أميركا لم ولن تتعاون مع طهران لمواجهة (داعش)»، وخصوصا أن الجماعات العراقية التي تعاونت مع إيران عملت على استمرار الاضطرابات في العراق.
لكن من الواضح أن أميركا أدركت أخيرا أن من الحماقة بمكان، الاعتماد على إيران أو إشراكها في التحالف للقتال ضد «داعش» وخصوصا في المناطق السنّية، وهذا أمر يزعج الإيرانيين الذين يريدون إظهار أنهم يشكلون قوة استقرار يمكن أن يعتمد عليها إقليميا، والذين سارعوا إلى تسليح البيشمركة وأرسلوا وزير خارجيتهم محمد جواد ظريف سريعا إلى أربيل ليضرب حديدا حاميا كما يقال في موضوع المواجهة مع «داعش».
في السياق عينه كان لافتا أن يحرص كيري على القول: إن الأمير سعود الفيصل أبلغه مع وصوله إلى بغداد أنه وجّه دعوة إلى نده العراقي إبراهيم الجعفري لحضور المؤتمر الإقليمي الدولي لمحاربة الإرهاب، ومن شأن هذا المناخ المستجد بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، أن يوفّر المناخات الملائمة لاستنساخ «الصحوات» لتتولى تنظيف المناطق التي تسيطر عليها «داعش».
كان واضحا من خلال كلام كيري أن مؤتمر جدة سيتولى الشق الأساسي والمستدام في المعركة ضد الإرهاب، وذلك عندما شدّد على أنه من الضروري حشد الجهود لوقف الإرهابيين وإثبات أنه لا مبرر ولا مشروعية لأي ادعاءات تطلقها «داعش» لإقامة خلافة إسلامية: «وعلى الجميع أن يبيّنوا أن ما تسعى إليه (داعش) يتنافى مع الإسلام وأن يساهموا في تقديم ما يلزم لإنهاء هذا التنظيم».
ومن الواضح أيضا أن السعودية في حربها الناجحة على الإرهاب، وعبر المبادرات والدعوات المتلاحقة لخادم الحرمين الشريفين منذ زمن بعيد، كانت السبّاقة في الدعوة إلى تنظيم الجهود على مستوى دولي لمحاربة الإرهاب والفكر الضال الذي يختطف الإسلام ويشوّه صورته أمام العالم، ونداء الملك عبد الله إلى زعماء العالم قبل عشرة أيام ليس الأول ولن يكون الأخير في العمل الدؤوب لخنق هذه الظواهر الإرهابية البغيضة.
وليس خافيا أن خادم الحرمين الشريفين اقترح عام 2005 إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، ودعمه في الشهر الماضي بمبلغ 100 مليون دولار سلّمت إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ويفترض في المركز أن ينسق الجهود الدولية لرصد الإرهاب وقمعه، عبر آليات تعمل لخنقه من خلال قواعد بيانات متبادلة بين الدول والأجهزة المختصة، ثم إن الحرص على وأد الفكر الإرهابي في مهده كان دائما وراء المبادرات المتصلة بالحوار بين أتباع الأديان وبين الحضارات التي أنشأها ورعاها.
على هذا الأساس يكتسب مؤتمر جدة لمحاربة الإرهاب أهمية بالغة في المعركة ضد «داعش»، فإذا كان التحالف الدولي في شقّه الجوي يضم أربعين دولة ستتعاون في المجالات العسكرية لتوفير عاصفة نارية تغرق مراكز «داعش» بالقذائف، من دون مشاركة أي جندي غربي في القتال على الأرض، فإنه في شقه الميداني المتعلق بالإسناد والإمداد ودعم المقاتلين على الأرض في العراق وسوريا يعتمد على ما توصل إليه مؤتمر جدة.
النظام السوري أدرك أنه لا مكان له في المعركة ضد الإرهاب، الذي وُلد نتيجة المذابح التي أنزلها بالسوريين ولهذا شنّ حملة انتقادات للتحالف الدولي ودعا إلى إقامة ائتلاف سوري إيراني روسي، رغم أن دعم موسكو وطهران لهذا النظام أدى إلى إطالة الحرب والكوارث التي ساهمت في خلق وحش الإرهاب بعدما أُخرجت طلائعه من السجون السورية بهدف تشويه صورة المعارضة، لهذا بدا البيت الأبيض كمن يوجّه صفعة إلى النظام عندما أعلن عن اتفاق أوباما مع خادم الحرمين الشريفين على أن الأسد فقد شرعيته، وعلى دعم المعارضة السورية المعتدلة التي ستتولى بعد ترميمها وتسليحها مقاتلة «داعش» وملء الفراغ.