إذا كان الأميركيون لا يريدون إسقاط الرئيس بشّار الأسد ولا يستطيعون إسقاط «داعش»، فهذا يعني أنّ سوريا ذاهبة إلى نزاع لا ينتهي، وربما إلى التقسيم. وهذه المعادلة تنطبق على العراق أيضاً، وعلى دول إقليمية أخرى لاحقاً. فهل يتمّ خراب الشرق الأوسط بعجز الأميركيين أم بإرادتهم؟
ثمة مَن يقول إنّ «داعش» لا تخشى تهديدات الرئيس الأميركي باراك أوباما والتحالف الإستعراضي الرافع شعار ضربها. والضربات الأميركية المنفَّذة اليوم لا تشكِّل خطراً على وجود «داعش»، و»كلّ ضربة لا تُميتني تقوّيني».ولأنّ «داعش» مجرّد عنوان لإنهيار سايكس - بيكو، فهناك شكوك حقيقية في أنّ واشنطن تنقاد إلى خطة إسرائيل إعادة ترسيم الشرق الأوسط والعالم العربي، ومعها بعض الأوروبيّين. ولذلك، فإنّ «داعش» ليست في وارد السقوط قبل انتهاء دورها.
لكنّ روسيا هي الرافضة التقسيم، لأنّها «أم الصبي». فنشوء دولة «داعش» يُهدّد روسيا بالتشقّق، بما فيها من أعراق وأديان، بدءاً بالشيشان الذين يشكّلون غالبية المقاتلين الأجانب مع «داعش» في سوريا والعراق. وهؤلاء يتكفّلون بنقل الجرثومة إلى روسيا في أيّ لحظة.
وأساساً تشهد موسكو حالاً دائمة من اللاإستقرار على خلفية الملف الشيشاني. ومعلوم أنّ المسلمين الذين ينتشرون، خصوصاً في الشيشان والقوقاز، يشكلون نحو 28 مليون نسمة، أي نحو 20 في المئة من سكان روسيا الحالية.
وحتى في النظرة إلى الأقليات المشرقية، لا تُمارس روسيا الإستعراضات، كالغربيين، بل تتبنّى موقفاً جدياً. ولذلك كانت دعوات بعض البطاركة المشرقيين، في إجتماع بكركي، إلى قرع أبواب روسيا، سعياً إلى ضمانات دولية لحماية مسيحيّي المشرق.
فالتجربة مع موسكو قد تكون أفضل من «التجارب المجرّبة» مع واشنطن، أو تكمِّلها على الأقل.الأميركيون، منذ حرب 2003 وإسقاط الرئيس صدّام حسين، لم يُدركوا تماماً لماذا دخلوا العراق ولماذا إنسحبوا منه مخلّفين خسائرهم. أما ذريعة التورُّط، أي ربط صدّام بالإرهاب العالمي، على خلفية تنفيذ «القاعدة» عملية 11 أيلول قبل عامين، فظهرت هشاشتها.
وكان من السذاجة أن يضرب الأميركيون نظام صدّام اللاديني، وتدعيم أنظمة هي اليوم داعمٌ حقيقي للتكفيريّين. والمثير أنّ هذه الأنظمة هي تحديداً تلك قواعد واشنطن في المنطقة!
ويرى كثيرون أنّ الضربات التي ينفِّذها الأميركيون اليوم ضدّ «داعش»، لن تكون أفضل حظاً من ضرباتهم الموعودة ضدّ الرئيس بشّار الأسد غداة إستخدامه الكيماوي. فالمصلحة كانت هناك إبقاء النظام، والمصلحة هنا إبقاء «داعش»... على الأقل لهذه المرحلة.
وفي الإنتظار، سيحاول الأميركيون زرع الأوهام بتحريض «سنّة الإعتدال» على «سنّة التطرّف»: في لبنان نموذج «تعويم» «المستقبل» في السلطة، وفي سوريا والعراق تحريض العشائر بين الرقة والأنبار على «داعش». لكن هذه التجربة القديمة، منذ إنشاء «الصحوات»، إنتهت بفشل ذريع.
ولأنّ الروس يرفضون «داعش» فعلاً، كأداة لتقسيم الشرق الأوسط. جرت معاقبتهم في عقر دارهم، في أوكرانيا. لكنّ اللافت هو التبدّل في موقف السعودية، بعد إستشعارها المخاطر. وهناك تقاطع للمصالح بين روسيا والسعودية في رفض تقسيم المنطقة، ظهَرت معالمه، لكنّ الأميركيين وضعوا حدّاً له بزيادة الضغوط على الطرفين.
فبعد مرحلة من الدعم الخليجي المشترك لكل القوى المعارضة لنظام الأسد، بما فيها «داعش»، إقتنع السعوديون بأنّ إنتصار هذه الجماعات سيُطيح العروش والأنظمة العربية كلّها على التوالي، من الأردن إلى منظومة الدول الخليجية ذاتها. ولذلك، سارعوا إلى إنهاء حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، فيما كان الأميركيون يدعون إلى التريُّث.
وفي تلك اللحظة، توتّرت العلاقات الأميركية - السعودية، وعُقدت لقاءات رفيعة بين السعوديين والروس، في موسكو والرياض، تضمَّنت عروضاً روسية سخيّة لدعم السعودية. لكنّ أزمة أوكرانيا تثقل كاهل الرئيس فلاديمير بوتين.
أما السعوديون فقدَرُهم ألّا يغادروا المركب الأميركي، لأنّ ما يربط السعوديين بواشنطن أكبر من قدرتهم على «الطلاق» أو البحث عن «زوجة ثانية»، على الأقل.
لذلك، فإنّ الذين خلقوا «داعش» ويحرِّكونها لا يَخشون أوباما، بل بوتين. ولكن الحدود المسموح بها لبوتين في الشرق الأوسط قد لا تتجاوز حدود الأساطيل الهائمة في عرض المتوسط.