في لحظةٍ، كاد لبنان يسترجع أيامَه السود. ففي تاريخه مئة «سبتٍ أسوَد» ومئاتٌ من أيام الأسبوع الأخرى، في «أزمنة الموت والرماد» الأهلية. وحتى الآن، لم يمرّ القطوع لأنّ المذهبيينَ اللبنانيين في ذروةِ اندفاعهم. ولم يدرك هؤلاء أنّ ما يجري في سوريا والعراق يستدعي منهم البحث عن أمثولاتٍ لا عن مكاسب.
كانت مثيرة، بمقدار ما هي مؤلمة، القصة التي رواها الجندي الشيعي الناجي من أكبر مجزرة إرتكبتها «داعش» في العراق حتى اليوم، وأعدمت خلالها أكثر من 800 جندي. وثمّة نقاط تستدعي التفكير.المجزرة وقعت في تكريت السنّية، مسقط رأس الرئيس السابق صدّام حسين، وجرت وقائعها في حزيران، علماً أنّ العنف المذهبي في العراق وسائر الشرق الأوسط، قد ازداد شراسةً ودمويةً منذ ذلك الحين.
يسرد الجندي فصولاً من الفظائع التي تعرّض لها الجنود قبل تصفيتهم، وهي ممارسات لا يستطيع اللبنانيون الإدعاء أنهم براء منها. فأشباح حروبهم الأهلية ليست أقلّ بشاعة.
لكنّ الرسالة التي تستدعي منهم، ولا سيما من السنَّة والشيعة، قراءة سياسية - أمنية ونفسية - إجتماعية، تكمن في ملاحظات بالغة الخطورة كشفتها رواية الجندي العراقي:
1- تعرَّض الجنود (جميعهم أو غالبيتهم الساحقة من الشيعة) لغدرِ بعض مسؤوليهم في قاعدة «سبايكر» العسكرية. فهؤلاء أفرغوا المستودعات من كل سلاح، وأوهموا جنودهم بأنهم سيخرجون في أمان، بناءً على إتفاق أبرمته العشائر.
ثمّ انسحب هؤلاء المسؤولون من المعسكر، ليدخل بعض زعماء العشائر، ويطلبوا من الجنود أن يسيروا معهم، واعدين إياهم بنقلهم إلى سامراء. لكنّ الجنود وجدوا أنفسهم في تكريت حيث تمّت تصفيتهم.
2- لاحظ الجندي، الذي نجا بفضل إدعائه أنه سنّي، أنّ البيئة في تكريت حاضنة لـ»داعش». فخلال تأدية الجنود وضعية الإنبطاح تمهيداً لإعدامهم، وصلت إمرأة إلى المكان وحرّضت المسلّحين على عدم إبقاء أيّ جندي على قيد الحياة. لكنّ الأكثر تعبيراً هو وجود أطفال بين «المتفرّجين» على المجزرة. كما كانت السيارات العابرة تتوقّف لـ«الفرجة»، وقد هلَّل البعض لرؤية الجنود المحتجَزين. وقبض سكانٌ محليون على جنود حاولوا الاختباء، وسلَّموهم إلى «داعش».
3- العلامة الطيّبة، في كلّ هذه الرواية، هي موقف صاحب المزرعة التي مكث فيها الجندي، قبل إطلاقه، إذ قال: «أظنُّ أنّ هذا الجندي شيعي وليس سنياً، لكنني، على رغم ذلك، سأحميه كواحد من أولادي». وكتم الرجل سرَّ الجندي عندما باح له بالحقيقة، وساعده للإتصال هاتفياً بوالده.
هذه الملاحظات العراقية تشكل درساً للبنانيين الذين يستهينون اللعب على التوتر المذهبي:
1- صحيح أنّ الجيش اللبناني، الناضج والمتماسك على رغم التشكيك، يختلف تماماً عن نموذج الجيش العراقي المشرذم مذهبياً، لكنّ الحكمة تقتضي وقفَ تعريض الجيش اللبناني للتجارب الشيطانية.
2- إنّ التعاطف الذي يبديه بعض السنّة مع «داعش»، مردُّه الممارسات الظالمة والشنيعة التي إرتكبها نظام نوري المالكي... ردّاً على ظلم صدّام. وفي علم النفس، يقوم المظلوم أحياناً بردود فعل لاواعية تفوق الأفعال بشناعتها، علماً أنه يصعب التحديد أين يبدأ الفعل وأين ينتهي ردّ الفعل. وغالباً ما يكون المجرم هو نفسه الضحية في جدلية ظلم لا متناهية.
وهذا الدرسُ، على سُنَّة لبنان وشيعته أن يتلقّفوه «طازجاً»، في اللحظة التي إندلعت فيها موجة الخطف على الهوية، في البقاع والضاحية، منذرةً بإستيراد الحالة العراقية بكل عناصرها.
ولا يجوز هنا الإتكال على المظلة الدولية لمنع الفتنة. وأثبتت التطوّرات في لبنان، على مدى أجيال، أنّ المراهنة على «الدول» قد تكون هي الكارثة أحياناً. فـ«الدول» هي إياها مصدر المؤامرات.
3- تبقى بقعة الضوء، أي صاحب المزرعة الذي رضخ لصوت ضميره وللإعتبارات الوطنية والإنسانية، لا الغرائز الحيوانية.
ويبدو «لبنان المزرعة»، التي «لا صاحب لها»، في رهانٍ على نماذج سنِّية وشيعية ومسيحية ودرزية لصاحب المزرعة العراقي... فكم بقي من هذا النموذج، وهل النماذج الباقية كافية لتجنُّب الكارثة؟