يعرف المتابعون لتطوّر اللغة وظهور المصطلح أنّ الكثير من الكلمات والمفردات تطرأ عليها التحوّلات عبر التاريخ، ويتخذ البشر وغيرهم منها موادّ لفظية لكي يحمّلوا عليها أو يخزنوها بمعنى آخر مختلف.
والتطوّر الذي يحصل في اللغة من حيث المفردة قد يتخذ لنفسه أشكالاً:
1ـ أن يزول المعنى السابق للكلمة وكلّ ما يرتبط به تماماً من الوعي البشري اللغوي، ليصبح مجرّد مدلول تاريخي يدرسه مؤرّخو اللغة ويتناولونه من زاوية كونه معنى تمّ استخدام اللفظ فيه سابقاً، وبزوال المعنى القديم للمفردة إما تهمل الكلمة تماماً ولا يعود لها استخدام حتى بين أبناء اللغة أو تتخذ معنى جديداً قريباً أو بعيداً عن المعنى السابق، بل قد يكون مبايناً له تماماً ويولد في مناخ مختلف عنه بالكلّية.
2ـ أن لا يزول المعنى السابق للكلمة، لكن يطرأ عليه تحوّل جزئي لا يفضي إلى هجرانه ونسيانه. وأشكال التحوّل الجزئي متعدّدة، فقد يكون تضييقاً لدائرة المعنى الأوّل، كأن يستعمل لفظٌ في معنى عام، ثم يظلّ على استعماله في هذا المعنى لكن مع فقد قدرٍ من عموميّته، ففي الحقيقة زال المعنى السابق بتمام خصوصياته لكنه لم يتلاشى في جزءٍ من دلالته.
وفي بعض الأحيان يكون التحوّل الجزئي المشار إليه معكوساً، فيكون اللفظ دالاً على معنى له مساحة محدّدة، فيأتي التحوّل اللغوي ويبقيه على معناه السابق مع توسعة له في مساحته، فبدل أن يدلّ على معنى ضيّق يصبح دالاً على معنى واسع مع الحفاظ على أصل المعنى وعنصره المشترك.
3ـ أن لا يزول المعنى السابق للكلمة، لكن يظهر إلى جانبه معنى جديد، ويصبح المعنيان إلى جانب بعضهما بعضاً في الدلالة اللغوية، وهذه أيضاً توجد حالات كثيرة لها نشير إلى بعضها:
أـ أن لا يكون ظهور المعنى الجديد مؤثراً على درجة حضور المعنى السابق في الاستخدام اللغوي، كأن يظهر مصطلح في علمٍ من العلوم ثم يستخدم المصطلح نفسه في علمٍ آخر، لكن بمعنى مختلف، ويحافظ المصطلحان على معناهما بشكل تام ضمن سياقهما في هذا العلم أو ذاك، وهذا مثل كلمة »الحجيّة« فإنها تستعمل في المنطق والفلسفة بمعنى مغاير لاستعمالها في علم أصول الفقه مثلاً.
ب ـ أن يكون ظهور المعنى الجديد مؤثراً على درجة حضور المعنى السابق في الاستخدام اللغوي، بحيث يضعف حضوره دون أن يزيله، ويسبّب هذا الأمر عادةً حصول حالة انصراف ذهني لدى السامعين ـ عندما يسمعون الكلمة ـ إلى المعنى الجديد أكثر منه إلى المعنى القديم، دون أن يغيب القديم من التداول.
إن رصد تحوّلات اللغة أمرٌ لا نهاية له، وقد حلّله علماء المنطق وعلماء أصول الفقه الإسلامي، كما درسه اللغويون وفلاسفة اللغة بتعمّقٍ وجدية منهم جميعاً.
سأحاول من خلال هذه المقدّمة الدخول إلى الموضوع الرئيس، وهو أنّ بعض الكلمات أخذت معانيها واستخدمت في اللغة الدينية ـ الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ـ بدلالاتها اللغوية الأصلية عند العرب أو بدلالة جديدة حفرتها لها النصوص، كما حفرت هذه النصوص الدلالات الخاصّة التي نعرفها اليوم لكلمات مثل: الصلاة، والصوم، والحجّ، والزيارة، والزكاة، والخمس، والجهاد وغيرها.
وبعد أن استخدمت هذه الكلمات في معانيها، ظهرت التيارات الفكرية في الثقافة الإسلامية، وحاول بعضها أن يتماهى مع مفردةٍ قرآنية هنا أو حديثية هناك، رأى فيها مضموناً جيداً، فخلع المفردة على نفسه غير قاصد بذلك أحياناً ادّعاء أنّ المفردة جاءت فيه، لكن وبمرور الوقت ظهر من حاول أن يجعل نفسه هو المعنيّ بهذه المفردة لا غير، فحصل انقسام في الرأي، وتمّ تبادل الاتهامات في ممارسة التأويل غير الممنهج في التعامل مع النصّ القرآني والحديثي.
ولعلّه يمكنني القول بأنّ مصطلحاتٍ من أمثال: الحكمة والعقل، تدخل في هذا السياق، فإننا لو راجعنا الدلالات اللغوية الخام، وحلّلنا العقل العربي من خلال تحليل اللغة العربية التي تحكي عنه، لرأينا أنّ العقل العربي يغلب فيه الجانب العملي والغَرَضي، ويقلّ فيه الجانب النظري والتجريدي، ولو سرنا مع كتاب الله تعالى، لوجدنا أنّ الأمور التي طرحها عندما تكون نظريةً فهي تؤخذ عنده بوصفها جسراً لمسألة عملية.
ولا نقصد بذلك البُعد العملي الاجتماعي أو السياسي أو.. فحسب، وإنما (العملية والعملانيّة) التي ترتبط قبل كلّ شيء بالعلاقة مع الله تعالى؛ لأنّ الارتباط بالله ليس مسألةً نظرية، فلم تأت النبوّات لتخوض حربَ أرقام في أنّ الله 1 أو 2 أو 3 أو 4 أو أكثر، بل إنّ الوحدانية في قضيّة الدين تعني التوكّل والاستعانة وربط كلّ الأمور به تعالى وكذلك تعني الصبر والإحساس بالتوحيدين: الأفعالي والعبادي، إنّ القضية هي قضيّة كلّ التصرفات والمشاعر والأحاسيس، وليست المسألة مسألةَ صراع على معلومة إضافية في أنّ الله واحدٌ أو كثير، فليس المهم إدراك وحدانية الله فقط بل عيش هذه الوحدانية.
وهكذا الحال في مسألة المعاد وقضاياها، فليست تقف عند حدود أن نعرف فقط أنّ القيامة قادمة أو هي باطن الدنيا، بقدر ما المهم أن نعيش الآخرة في الروح والعمل، سواء العمل الجوانحي الداخلي أم الجوارحيّ الخارجي.
من هنا، نجد أنّ (الحكمة) في لغة العرب وصفٌ لإتقان الفعل وإحكامه، وأنّ (العقل) نحوٌ من المنع عن شيء، من هنا كان العقل والحكمة من مقولات الفعل والممارسة والسلوك قبل أن يكونا من مقولات النظر والتأمّل اللذين يقفان عند حدود التفكير وترتيب المقدّمات وأخذ النتائج منها.
ووفقاً لذلك، لا نميل لمحاولات من يريد فهم المصطلح ـ المفردة القرآنية عبر إسقاط مفهومٍ حادثٍ عليها، فلم يرد الله تعالى بقوله: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه﴾ (مريم: 48) الحديثَ عن مذهب المعتزلة أو مدحه، حتى نسوق القضية مساقاً مذهبياً أو فرقياً، كما لم يرد بقوله سبحانه: ﴿..وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..﴾ (البقرة: 269) الانتصارَ لمذهب الفلاسفة العقليين، وإنما قصد المعنى العام المتصل بالدلالة اللغوية والعرفية للكلمة، وهذا المعنى قد يستبطن المعنى الحادث في داخله وقد يكون مغايراً له، وربما كان مناقضاً له أحياناً، كما هو واضح.
والذي يعزّز أنّ الحكمة في القرآن الكريم تبرز في جانبها الروحي والعملي، أنّ الله تعالى قد ذكر في سورة الإسراء جملةً وافرة من الأمور التربوية والأخلاقية والشرعية ومن الفرائض والمحرّمات، كعبادة الله وحده، والبرّ بالوالدين، والوفاء بالميزان، والصدقة، وترك التبذير، والقتل، والزنا، والبخل، والإسراف، والتصرّف في مال اليتيم ظلماً… ومن ثَمّ قال عزّ من قائل: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ (الإسراء: 39)، وهذا يعني أنّ جملة الفرائض والمحرّمات والأخلاقيات العملية والروحية هي التي يطلق عليها الكتاب العزيز وصف الحكمة؛ لأنّها تجعل الفعل الإنسانيّ متقناً سليماً صائباً محكماً على صعيدي الروح والبدن، واللفظ والمعنى، والظاهر والباطن، والصورة والمحتوى.
وقال تبارك وتعالى في موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (لقمان 12)، فإنّ الجملة التالية لكلمة (الحكمة) في هذه الآية الكريمة وقعت موقع التفسير لها، ومن الواضح أنّ الشكر ـ بما هو فعلٌ قوليّ وروحيّ وعقليّ ـ يتصل بالجانب السلوكيّ أكثر من اتصاله بالجانب الفكري الصرف.
لكن هل يعني ذلك عدم وجود الحكمة العقلية ـ بما صار لها من معنى معاصر ـ في كتاب الله تعالى؟
لقد سعى الفلاسفة الإسلاميّون ـ لاسيما في المدرسة الصدرائية العريقة ـ لكي يستنطقوا النصوص الدينية؛ ليضعوها في سياق الحديث عن حقائق الفلسفة المتعالية، وقد وفّقوا في أكثر من مكان للتنبيه على نقاط في دلالات النصوص لم يكن قد تنبّه لها العلماء من قبل، وبل ولم تخطر على بالهم فيما أظن، لكن هناك وجهة نظر متواضعة ـ أميل شخصياً إليها ـ وهي ترى أنّ هناك فرقاً بين قيام المفاهيم القرآنية على النظريّات الفلسفية من جهة أولى، ودلالة هذه النصوص والمفاهيم على تلك المقولات الفلسفية من جهة ثانية، فهذان أمران مختلفان، فالله خيرٌ وعدلٌ لا شرّ في ملكه وسلطانه كما تقول النصوص مثلاً، لكن تفسير عدم الشرّية بأنه راجع إلى عدمية الشرّ، كما ذهب إليه بعض الفلاسفة، لا يعني أنّ الآيات دلّت على عدمية الشرّ بما لهذا المصطلح من معنى فلسفي خاص وتخريج عقلي محدّد، وإنما دلّت على خيرية الله تعالى وخلقه، ونحن وجدنا أنّ هذا المفهوم القرآني يمكن عَقْلَنَتُه واستيعابه في سياقِ نظريةِ عدمية الشرّ وخيريّة الوجود بشكل أفضل من عقلنته في سياق نظرية: (إنّ ترك الخير الكثير من أجل شرّ قليل هو شرّ كثير).
من هنا، قد تكون العديد من النظريات الفلسفية مساعدةً على تبرير مضامين بعض النصوص عقلانياً، لكنّ هذا لا يسمح لنا بتفسير النصوص وافتراض دلالتها على هذه النظريات من غير طريقة الاقتضاء الدلاليّة المعروفة عند علماء اللغة وأصول الفقه، إلا بضرب من التأويل التحكّمي أو التطويع. وهذا خطأ وقع فيه الكثيرون، فاشتمال القرآن الكريم على نظريات الفلاسفة العقليين يحتاج إلى إثباتات في الدلالة، ولا يكفي فيه مجرّد صحّة هذه النظريات وتشكيل هذه الصحة بنيةً تحتية لعقلنة مفاد النصوص القرآنية والحديثية، لأنّ كونها بنيةً تحتية لا يعني أنّ القرآن العزيز قد تحدّث عنها، حتى لا نقع في استخدام أساليب ليِّ عنق النصوص وتطويعها أو التلاعب بها، وإنّما يقدّم ذلك بوصفه افتراضاً مضافاً من قبلنا.
وعلى أيّة حال، فنحن بحاجة إلى الحكمة العملية ـ الباطنية والظاهرية ـ وبعض العقول الدينية قد تكون بارعةً في الحكمة النظرية ولديها عقل نظري، لكنّ عقلها العملي ضعيف، والعكس هو الصحيح، فنحن بحاجة لجماع العقلين النظري والعملي كي ننهض ونستوي متوازنين إن شاء الله تعالى.
وختاماً، فقد اطّلعت على كتاب أخينا العزيز صاحب الفضيلة الشيخ حيدر فيض الله حفظه الله تعالى ورعاه والموسوم بـ»ماهيّة الحكمة«، فاستفدت منه، ورأيت فيه اهتماماً بالغاً بالحكمة ببُعدها الروحي والأخلاقي، ولمست فيه حسّاً قرآنياً وتفسيرياً تربوياً، كما لمحت فيه دعوةً للألفة والتقارب والتوادّ بين مكوّنات المجتمع الإسلامي الكبير، مما يدلّ على وعي بحاجاتنا الحاضرة على المستوى الأخلاقي والروحي. إنني إذ أشكر المؤلّف الكريم على جهده الطيّب هذا، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقه لكلّ خير وينفع به المسلمين، ويقوّي به أمر الدين، وينشر به الوعي والبصيرة، إنه قريب مجيب، وإنه على كلّ شيء قدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
حيدر محمّد كامل حبّ الله