كان لا بد لقوى 14 آذار من أن تؤكّد مرة أخرى أنها "أمّ الصبي" عندما رأت أن السكين اقترب منه ليقطعه نصفين، وأن تلاقيها قوى 8 آذار في منتصف الطريق لتكون هي الأم أيضاً لتخليص لبنان، وهو الصبي الوحيد عند الجميع، بالموافقة على المبادرة، وجديدها أنها تصدر عن كل قوى 14 آذار وليس عن أفراد فيها كي تأخذ الطابع الجدّي. وأهم ما فيها أنها أخذت برأي نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم الذي دعا قبل مدة إلى التوافق على مرشح تسوية للرئاسة الأولى "وإلا كان انتظار انتخاب رئيس للجمهورية طويلاً"...
ورغم ذلك فإن رد العماد ميشال عون برفض هذه المبادرة كان سريعاً لأنه لا يزال عند موقفه الذي أعلنه وهو في باريس: "إما أن يصبح رئيساً للجمهورية أو يعطل النظام". وها أن تعطيله بدأ بتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية وبطرحه تعديل الدستور لجهة جعل انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب اعتقاداً منه أنه الأقوى شعبياً بالصوت الشيعي المرجح من دون أن يهتم بمصير أي مرشح ماروني بعده سواء جاء به الشعب قوياً أو ضعيفاً مع وجود خلل ديموغرافي واضح بين المسيحيين الذين باتوا يشكلون 35 في المئة تقريباً والمسلمين الذين يشكلون 65 في المئة، ومن الطبيعي أن يكون القرار للأكثرية الاسلامية، بحيث تأتي بالرئيس الماروني الذي تريد وبالرئيس الذي يكون في خطها السياسي أيضاً حتى وإن لم يكن هذا الخط في مصلحة لبنان السيد الحر المستقل.
والسؤال الذي يطرح في مثل هذا الوضع المعقد هو: من المسؤول عن إيصال لبنان الى هذا الوضع؟
الواقع انه ما دام العماد عون ينتظر كلمة "حزب الله" و"حزب الله" ينتظر كلمة ايران، وايران تنتظر مصير المحادثات حول ملفها النووي وكذلك مسار التقارب مع السعودية، فلن يكون للبنان رئيس للجمهورية في المدى المنظور، ويكون أول المسؤولين عن ذلك هو الثنائي عون – نصرالله. أما المسؤول الآخر فهو مجلس النواب الذي أخلّ بواجباته فلم يحترم مواعيد الاستحقاقات وأحكام الدستور وفي رأسها استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، وان يكون له موقف من النواب الذين يتعمدون التغيب عن جلسات الانتخاب لتعطيل نصابها من دون عذر شرعي. وهذا الموقف يكون بتفسير روح الدستور ألا وهو أن يكون حضور النواب هذه الجلسات إلزامياً لأن تغيّبهم عنها يجعل الدولة بلا رأس، ودولة بلا رأس لا وجود لها ولا حياة إنما الوجود يكون للفوضى العارمة التي تملأ الفراغ في المؤسسات وتشل عملها، أو أن يتفق النواب على إسقاط اسم كل نائب يتغيب عن جلسات انتخاب رئيس الجمهورية من دون عذر شرعي.
وعندما يصير الاتفاق على أي من هذه الاقتراحات فلا تعود ثمة حاجة إلى جعل رئيس الجمهورية يستمر في منصب الرئاسة بعد انتهاء ولايته الى ان يتم انتخاب خلف له كما اقترح البطريرك الكاردينال الراعي، ولا حاجة أيضاً إلى أن تنتقل صلاحيات الرئيس الى الحكومة لتصبح ممارستها موضوع خلاف قد يودي بها.
والمسؤول الآخر عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية هي الحكومة نفسها التي إذا جاز لأعضائها الخلاف على المشاريع وحتى على انتخاب رئيس للجمهورية وهو أمر طبيعي وديموقراطي، فلا يجوز لهم الخلاف على تأمين نصاب جلسات الانتخاب. فكما أنه ليس من المنطق والمعقول أن يدعو رئيس مجلس النواب الى عقد جلسة انتخاب ويتغيب عنها هو ونواب كتلته، فليس من المنطق والمعقول أيضاً أن يتغيب وزراء مع ما يمثلون من أحزاب وكتل عنها، بل عليهم الحضور كما يفعل الرئيس بري ونواب كتلته، وإلا على مجلس النواب حجب الثقة عن حكومة يساهم وزراء فيها في تعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية خلافاً للدستور الذي ينص بصراحة ووضوح على إجراء هذا الانتخاب فوراً من دون البحث في أي أمر آخر.
أما المسؤول الآخر والأخير فهو "المجتمع المدني" الذي عوض أن يتحرك في الشارع احتجاجاً على النواب الذين يقاطعون جلسات الانتخاب، فإنه يتحرك احتجاجاً على التمديد لمجلس النواب، وهو تمديد تفرضه نتيجة تعطيل جلسات الانتخاب، فإذا ضغط هذا المجتمع بكل الوسائل على النواب المقاطعين كي يحضروا هذه الجلسات، فإن موضوع التمديد لمجلس النواب لا يبقى مطروحاً، بل يصبح ضرورة ملحة إذا استمر النواب في مقاطعتهم لأن ذلك يؤدي الى إحداث فراغ مجلسي بعد الشغور الرئاسي، وعندها يكون "المجتمع المدني" قد خدم من حيث يدري أو لا يدري أهداف من يريدون الفراغ الشامل الذي لا خروج منه إلا بعقد مؤتمر يعدل دستور الطائف ويضع صيغة جديدة للعيش المشترك هيهات أن يمر وضعها بسلام...