خلال جلسة نقاش سياسي، سألني دبلوماسي غربي يعمل في بيروت: “هل تعتقد ان اللبنانيين في العموم مستاؤون من عدم التدخل العسكري الاميركي او الدولي لضرب تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام وتحديدا في دولتي سورية والعراق؟”.
سألته في محاولة لتقديم اجابة على هذا التساؤل: “هل تعتقد انه يمكن الحديث اليوم عن موقف اللبنانيين من ظاهرة داعش بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية او المذهبية؟”.
لم اتوقف كثيرا أنتظر الاجابة على تساؤلي ايضاً، لأقول له ان اللبنانيين عموما، وعلى اختلاف انتماءاتهم الطائفية والسياسية، لا يرون في هذا التنظيم وما يمثله من نموذج في الحكم والادارة، مثالا يمكن ان يُحتذى في لبنان، لا على مستوى الافكار ولا السلوك.
لكن هذه القناعة لا تعني بالضرورة ان الموقف واحد حيال كيفية التعامل مع هذا التنظيم الذي اجمع خصومه وغيرهم، على اختلافهم من مؤيدين او متعاطفين او من يرونه خطرا على سواهم، كل هؤلاء انخرطوا في موجة تضخيم هذه الظاهرة. فخصومها كان لهم مصلحة في تظهير خطرها على الاقليات وعلى الاكثريات وعلى المجتمع عموما، فضلاً عن الدول الغربية ومجتمعاتها. ومؤيدوها او المتعاطفون معها ساهموا في السياسة والاعلام وغيرهما في إظهار جرائمها والاضافة عليها في سبيل ترهيب الآخر ولتحقيق مكاسب سياسية.
على ان الاشارة الى تقاطع المصالح في تضخيم دور داعش لا يعني ان هذا التنظيم ليس متورطا… بل هو غارق في ارتكابات وجرائم ضد الانسانية وتتنافى مع العقيدة الاسلامية وقيمها. لكن يجب الاقرار بأن ما يقال عن هذا التنظيم هو ما يصل الينا وهو الذي شكل صورته في الوعي اللبناني على الاقل، فيما افعاله المشينة استكملت ما تبقى من الصورة المنقولة الينا. وليس خافيا انها المرة النادرة، ان لم تكن المرة الاولى، التي تتطابق مواقف “المستضعفين” و”المستكبرين” في ادراج ظاهرة، اسلامية او سياسية، كما تقدم نفسها، في خانة الارهاب، بل الاتفاق على وجوب استئصالها.
لم نسمع حتى اليوم ان احداً من دعاة رفض التدخل الاميركي والغربي او الاستعماري، في العالم العربي والاسلامي، وجّه اي نقد الى التدخل الاميركي العسكري الجاري اليوم في العراق، وان وجدت عبارات النقد، فهي للتباطؤ في تنفيذه، وبشكل شامل لا انتقائيا. ولبنان ليس خارج هذا السياق. فلطالما كان هذا البلد منبرا متاحا لاطلاق المواقف المنددة بالتدخل الاميركي في المنطقة العربية على الاقل، والتاريخ القريب شاهد على ذلك.
لكن ثمة حقيقة اخرى هي ان التنديد بهذه الظاهرة لم يصل الى حدّ اعتبارها خطرا يبرر بناء اجماع سياسي داخلي يحصّن المجتمع والدولة. والدليل على ذلك ان الانقسامات السياسية والطائفية بقيت على حالها، ان لم تتعمق اكثر. والعجز عن تجاوز الخلاف في عملية انتخاب رئيس للجمهورية يؤشر على ان استشعار الخطر لم يتفوق على الانقسامات واللامبالاة الوطنية.
“داعش” يدخل في الحياة السياسية اللبنانية كمشروع اضافي للاستثمار الطائفي. ففي البيئة السنية من يرفض داعش لكنه يعتبر ان ما يقوم به كان السبب في لجم التمدد الايراني وتهذيب الشيعية السياسية في العراق ولبنان ولاحقا في سورية. وبالتالي هؤلاء مع ضرب هذا التنظيم واستئصاله لكن بشرط الا يتم ذلك على حساب اضعاف السنة لحساب ايران وحلفائها في المنطقة.
في المقلب الشيعي ثمة قلق من تمدد هذا التنظيم، وهو ما يجعل الشيعية السياسية، بامتدادها الايراني، تدعو الى قيام حلف اقليمي ودولي لاستئصال هذه الظاهرة، ولو كان الشيطان الاكبر على رأس هذا التحالف. ولم يعد خافياً ان مقولة خوف الاقليات والاستثمار فيها باتت مترسخة في الوعي والسلوك وهي مصدر من مصادر تقديم اوراق الاعتماد الجديدة للحلف الدولي الذي يتشكل في مواجهة داعش. فايران هي الدولة المؤهلة لأن تكون طرفا ضامناً على هذا الصعيد.
اما المقلب المسيحي اللبناني فتتنازعه كما بات معروفا فكرة البحث عن حماية ما تبقى من هذا الوجود في المنطقة بمعزل عن مآلات مسار الصراع. وهناك من يرى ان لا حلّ الا شامل للصراع، ومن يرى ان بندقية حزب الله مثال يحتذى لمواجهة هذا الخطر، وبين من يعتبر ان هذه البندقية هي سبب رئيسي في استدراج هذا الخطر على المسيحيين…
وحده الخوف جمع الجميع، لكن الخوف وحده لا يكفي.