في زمن انتخاب الرئيس بشير الجميّل واستشهاده الذي يُعيد إحياء حقبة من تاريخ لبنان، اندفع فيها المسيحيون باتجاه التسلّح والعَسكرة والميليشيات دفاعاً عن لبنان الجغرافيا والدور، وفي الوقت الذي عاد فيه الحديث من قبل بعض المسيحيين عن التسلّح، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه يتمَثّل بالآتي: هل يقاتل المسيحيون مجدداً؟
القتال بالنسبة إلى المسيحيين لم يكن يوماً هواية أو ترفاً أو عقيدة أو وظيفة، إنما كان واجباً إنسانياً وقيمياً، يلجأون إليه فقط عندما يشعرون أن كل الأبواب السياسية سُدّت، وأن الدولة تخلّت عن دورها، وأن عدم القتال يعني نهاية وجودهم وحضورهم السياسيّين.
وهذا تحديداً ما ميّز المسيحي اللبناني تاريخياً عن المسيحي المشرقي لجهة مزاوجته بين عدم التردّد بالذهاب إلى الحرب كخيار أخير لا بد منه للدفاع عن حريته، وبين سَعيه الدائم إلى السلام والاستقرار. فهو لم يلجأ إلى السلاح إلّا اضطراراً، ولم يستخدم هذا السلاح إلّا دفاعاً عن النفس، ولم يعتبره يوماً قضيته وعلّة وجوده، ولم يتمسّك به أبداً كضمانة لاستمراريته، لأنه لطالما اعتبر أنّ دوره هو الأساس والركيزة والضمانة.
وإذا كانت الظروف الجغرافية الجبلية ساعدت المسيحي اللبناني على التحصّن واللجوء إلى خيار السلاح عند الضرورة، وإذا كان التوازن الديموغرافي غير الموجود في مناطق ودول عربية أخرى قد مَدّه بعنصر قوة مهم جداً، إلّا أنه لا يجب الاستهانة أو التقليل من طبيعة تكوين هذا المسيحي الذي يرفض الخضوع والتسليم بالأمر الواقع.
فالمسيحي اللبناني لم يُدجّن على رغم كل الغزوات والامبراطوريات والدول التي عبرت لبنان وحَكمَته، إنما كان يُحسن تقطيع الظروف والصعاب، ويُبقي على شُعلة الأمل باستعادة كامل حريته مُضاءة، لأنّ الحرية بالنسبة إليه هي قدس أقداس الحياة. فقتاله في الحرب لم يكن دفاعاً عن الوجود المسيحي البيولوجي، بل كان دفاعاً عن الوجود المسيحي الحرّ ضمن دولة سَيّدة ومستقلة، وهذه الحرية بالذات هي التي تميّز المسيحي اللبناني عن المسيحي المشرقي.
وإذا كان بعض اللبنانيين وَقع عشيّة الحرب الأهلية في العام 1975 في خطأ تقدير قدرة المسيحيّين على القتال، معتقداً أنّ التخلّص منهم لا يتطلب أكثر من أسبوع، فإنّ هناك مَن يعتقد اليوم بأنّ المسيحيّين عاجزون عن تكرار هذه التجربة مجدداً لأسباب تتصِل بانقسامهم وتشَرذمهم وضعفهم، وتراجع عددهم وحضورهم وتأثيرهم، وغياب الحماس والتحزّب والتسَيّس لدى شبابهم، ورفضهم الموت أو الاستشهاد في سبيل أيّ شيء، وانّ العوامل التي دفعتهم للقتال في العام 1975 لم تعد موجودة، لا َبل وَلّت إلى غير رجعة.
وإذا كانت الحرب اللبنانية برهنت خطأ التقييم الأول، خصوصاً أنّ المسيحيين امتلكوا أكبر قوة عسكرية تنظيمية إبّان الحرب، فإنّ هناك مَن يخطئ مجدداً في تقييم ردّ فعلهم ومدى استعدادهم للقتال، حيث أنّ الرهان على الأسباب المُشار إليها أو غيرها ليس في محله، لأنه لدى شعورهم بأيّ خطر جدّي فإنهم لن يترددوا لحظة واحدة في حمل السلاح دفاعاً عن حريتهم، وبشراسة تفوق شراسَتهم العسكرية التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته.
ولكن يخطئ في المقابل مَن يعتقد انه يستطيع جَرّ المسيحيين الى الحرب لحساباته ومصالحه وأغراضه. وبالتالي، كلّ ما يجري اليوم مِن تسَلّح مصطنع وأمن ذاتي وتخويف المسيحيّين من «داعش» لدفعهم إلى حمل السلاح لن يحقّق أغراضه الرامية إلى تصوير جميع الطوائف في لبنان مُسلّحة تبريراً لسلاحه، كما إلى وضع المسيحيين في مواجهة السنّة وعرض خدماته لتسليحهم.
فالمسيحيون في العام 1975 حملوا السلاح دفاعاً عن الدولة والتجربة اللبنانية، ودفاعهم عن ذاتهم كان شكلاً من أشكال الدفاع عن هذه الدولة، فضلاً عن أنّ تسليحهم وتدريبهم في مراحل الحرب الأولى كان من الدولة نفسها نتيجة عجزها عن الدفاع عن سيادتها بفِعل التناقضات داخلها.
وبالتالي، لولا انهيار هذه الدولة لَما حملوا السلاح، وبكلام أوضح لو نجحت القوى السياسية آنذاك في تنظيم التعايُش بين منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية من جهة، وبين الجبهة اللبنانية من جهة أخرى، لَما وقعت هذه الحرب، والدليل الفترة الفاصلة بين توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 واندلاع الحرب في العام 1975.
وإذا كان مِن سبب مباشر لتلك الحرب، فهو الرغبة في الحسم لدى أركان الحركة، على غرار رغبة «حزب الله» في الحسم في محطتين: محطة 7 أيار 2008 مع انتقال الحزب من مرحلة الاستقواء بوَهج سلاحه إلى مرحلة استخدامه. ومحطة إسقاط «حزب الله» حكومة الرئيس سعد الحريري التي دفعت السنة إلى التفكير للمرة الأولى بالتسلّح.
وفي موازاة كلّ ذلك لا يجب الاستهانة بالموقف الغربي - العربي آنذاك، والذي تقاطع بشكل أو بآخر عند حصر الصراع العربي - الإسرائيلي في لبنان، وذلك على غرار تقاطعه اليوم عند حصر الأزمة السورية داخل حدودها ومَنع تمددها إلى لبنان، وقد برهنت أحداث عدة من 7 أيار إلى عرسال أنّ هناك خطوطاً حمراء حول لبنان ممنوع تجاوزها، وهي تقول بالخط العريض: الحرب في لبنان ممنوعة، ما يعني استمرار الوضع داخله بين حَدّي الفوضى المضبوطة والاستقرار النسبي، وما يؤكد بأن المرحلة الراهنة تختلف بظروفها الخارجية والداخلية عن مرحلة السبعينات.
وبالعودة إلى السؤال أعلاه: هل يقاتل المسيحيون مجدداً؟ نعم، والرهان بأنّ عنفوانهم انكسر وعَصبهم انعطَب هو في غير محلّه. لكنّ المسيحيّين اليوم لا يرون إطلاقاً أيّ مبرّر للحرب والقتال، ويعتبرون أنّ العوامل الخارجية والداخلية تصبّ في مصلحة استبعاد خيار الحرب، ويضعون كلّ ثقتهم بالدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية الكفيلة وحدها بالدفاع عن لبنان، ويشددون أنّ مَن يشعر بأيّ تهديد من أيّ جهة كان ما عليه سوى الانضواء في مؤسسات هذه الدولة.
هل يُقاتل المسيحيون مُجدَّداً؟
هل يُقاتل المسيحيون مُجدَّداً؟شارل جبور
NewLebanon
مصدر:
الجمهورية
|
عدد القراء:
891
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل ( ٨ ) سفارة لبنان في...
الشاعر محمد علي شمس الدين يترجل عن صهوة الحياة الى دار...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (7) سفارة لبنان في...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (6) سفارة لبنان في المانيا...
65% من المعلومات المضللة عن لقاحات كوفيد-19 نشرها 12...
لبنان: المزيد من حالات وارتفاع نسبة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro