عددٌ من الأكاذيب التي تُمارس في الخطاب السياسي اللبناني والعربي يمكن وصفها بـ"الأكاذيب الفاضلة". لكن فضيلتها، أي دور بعضها في الحد من التوتّر القائم في السلم الأهلي، وبعضها الآخر في استخدام المقدّس الديني للتجييش السياسي، لا يمنع أنها أكاذيب.
هنا بعض هذه "الأكاذيب الفاضلة":
1 - المناطق السُنّية في لبنان ليست بيئة حاضنة للتطرف.
هذه كذبة ومكشوفة. فالبيئة السنية في هذه المرحلة هي بيئة مولّدة للتطرف الديني مثل كل البيئات السنّية والشيعيّة في العالم. وأخطر ما في الظاهرة أن الفقر ليس وحده المنتِج للتطرف بل أيضاً الطبقات الموسرة. مما يعطي للمسألة بعدا ثقافيا خطيرا وقائماً بذاته من حيث نوع ترويج الثقافة الدينية الإسلامية في مجتمعاتنا المسلمة. هناك معتدلون ومتطرّفون في كل مجتمع حتى لو أن العالم المسلم يُظهر قابليّةً مدهشة في الانتاج الغزير للتطرّف في مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي باتت تسوده إما دولٌ ضعيفة أو فاشلة أو منهارة.
هذه الظاهرة ليست وحيدة الجانب فهي تأتي في سياق معقّد من ملامحه اندلاع الصراع داخل كل مجتمع مسلم بين متطرّفين ومعتدلين. بهذا المعنى فهي "بيئة حاضنة" في الاتجاهين الأصولي والمعتدل معاً، جديدُها في العقدين الأخيرين لا الاعتدال وإنما تصدير التشدّد واستقباله. لكن بالمقابل وكما في مأساة احتجاز العسكريين اللبنانيين المخطوفين من عرسال، فإن الحجم الكبير والحقيقي الذي يتّخذه استنكار هذا الاحتجاز بين كل فئات الشعب اللبناني يكشف كم أن فكرة "البيئة الحاضنة" يمكن أن تكون تعبيرا عن حالة أقلية في البيئة الحاضنة نفسها. أو أن مفهوم "الاحتضان" على خطورته لا يُنتِج سوى حالات محددة. أما في أوسع حالاته فيشكّل رد فعلٍ على احتقان طائفي كما في الحساسية السُنّية الشيعية التي تمتد على مستوى المنطقة وتجعل بالتالي فكرة "البيئة الحاضنة" تتخطّى الوضع اللبناني. وهو وضع لا يستقبل التطرف فقط، بل إذا جاز التعبير، يستقبل "الاحتضان" أيضاً.
المشكلة الحقيقية التي تُثار هنا هي سؤال من هو المعتدل فعلاً؟ وهنا الالتباسات كثيرة على المستوى العربي والمسلم لأنه ليس كل من هاجم التطرف معتدلاً، فالبعض الحامل لثقافة متشدّدة يمكنه ادعاء الاعتدال في خطابه السياسي.
2 - الأصوليات الإسلامية تختلف عن بعضها البعض، فـ"الإخوان المسلمون" والخمينيّون مختلفون عن "طالبان" و"داعش" وغيرهما من حركات التوحّش الأصولية.
هذه ليست كذبة كاملة ولكنها "نصف حقيقة" و"نصف كذبة".
أما نصف الحقيقة فيها فهو أن تطورات الصراع السياسي في المنطقة العربية والعالم المسلم جعلت هذا التمييز عملياً على أكثر من مستوى. فـ"الإخوان المسلمون" وبعض مشتقّاتهم انخرطوا في تجارب سلمية فعلية في تركيا وتونس ولبنان فيما ذهبت مشتقّات أخرى إما إلى عنف التطرف الإرهابي أو عنف الحروب الأهلية. بينما "حزب الدعوة" الشيعي العراقي انخرط في مسار محاولات بناء الدولة الفيدراليّة العراقية، ومارس طائفيّتٓه في السلطة من خلال هذا المسار بشكل أساسي.
أما "نصف الكذبة" فيطرح مسألة عميقة جداً وأعتقد أن ضوضاء التوحّش الأصولي يجب أن لا تغيّبها: إنها مسألة انبعاث الفكر الإسلامي الأصولي منذ السبعينات من القرن المنصرم وحدثه الحاسم المتمثّل بالثورة الإيرانيّة ومن ثم الحرب الأفغانية في الثمانينات من ذلك القرن باعتباره الحدث الأصلي في هذا التغيير السوسيولوجي البنيوي. إنه التغيير الذي يصيب مجتمعاتنا التي كانت تعاني أصلاً، نخباً وشعوباً، في العهدين الليبرالي قبل الحرب العالمية الثانية والاشتراكي القومي بعدها، من أزمة تكيّف مع حقائق العصر قبل الانبعاث الأصولي فكيف معه!
الذي يحتاج إلى موقف واضح وشجاع من العلمانيّين والديموقراطيين والليبراليين والمحافظين ورجال الدين المتنوّرين هو القول الصريح أن ديننا الحنيف الذي يرسم الشخصية الحضارية الراسخة لعالمنا المسلم ليس قادراً على أن يشكل أساساً سياسياً لمشروع حكم معاصر وحديث. وهذه شجاعة فكرية فيما لو تحقّقت ستعني باختصار نسفٓ كل الأساس الذي قام عليه الفكر الأصولي منذ تأسيس حركة "الإخوان المسلمين" عام 1928 إلى انتصار الثورة الإيرانية حتى اليوم. يجب أن يستعيد الإصلاحيون في العالم المسلم حق المبادرة التي وجّهت تجربة جيل رائد من المفكرين والسياسيّين المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين بإعلان أن الانتماء الديني لا يمكن أن يبني تجربة حكم دولة قادرة على مواجهة تحديات العصر. وأن هذا الموقف لا يغيّر من أصالة تديّن الفرد المسلم إذا اختار أن يكون متديّناً. هذا ما حدث في أوروبا عصر النهضة بالنسبة للمسيحية ممثّلةً بالكنيسة من حيث ما كان يسمّيه بعض "القادة المؤسِّسين" للولايات المتحدة الاميركية في النقاشات الكبرى بعد الاستقلال في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر أنه "تحرير الدين من الدولة".
3 - هناك "أكذوبة فاضلة" مكشوفة إلى درجة أنها بالكاد تستحق خانةً مستقلة في هذا التعليق وهي أكذوبة "بناء الدولة" أو "إعادة بناء الدولة" التي يتبادلها الوسط السياسي اللبناني كأنها مطهِّرٌ لغوي في النقاش. تنهار دولٌ عربيّةٌ اليوم أو تحتضر بأشكال من التفسّخ تجعل المهمّة العملية هي "إعادة بناء المجتمعات". فالأدق للخلاص من ابتذال "الأكذوبة الفاضلة" القائلة بـ"بناء الدولة" استخدام تعبير أكثر جدية من حيث تبيان مدى عمق أزماتنا في المنطقة وهو "إعادة بناء مجتمعاتنا"!
الوطنيّتان السورية والعراقية أصبحتا حطاماً لا تنفع معه "الأكاذيب الفاضلة" لا لدى السلطات ولا لدى المعارضات المعنية بهذا الإرث من تشكّل الكيانيات الوطنية في المائة عامٍ الأخيرة. وإذْ أستثني الوطنيّة المصرية القوية من هذا المشهد الانهياري والذي منع أصلاً الحرب الأهلية على أرض الكنانة، فإنني طبعاً لا أستثني لبنان الذي بنى نظاماً طائفيّاً قويّاً على قاعدة دولة ضعيفة بل تافهة تتبادل الطبقة السياسية استنزافها في معرض حمايتها لهذه الدولة الضعيفة.
"أكاذيب فاضلة" أخرى تحتاج إلى رصد، وبعضها مِمّن لا يجرؤ أحدٌ على تسميتها حتى الآن.