رصد مراقب ديبلوماسي ملامح تطوّر جديد في الأزمات المحلية والاقليمية والدولية، فبعد أن كان الانطباع سائداً بأنّ تفاهماً روسياً - أميركياً عميقاً قد حصل في المكسيك قبل عام ونصف عام بين الرئيسين باراك اوباما وفلاديمير بوتين وأثمرَ في ما بعد عوناً روسياً لإخراج واشنطن من مأزق التدخّل العسكري في سوريا، اعتقد كثيرون انّ التسوية الكبرى على المستوى الدولي قد بدأت وانّ انعكاساتها الاقليمية ستظهر تِباعاً.
وجاء الاتفاق الاميركي - الايراني ليؤكد هذا التحليل، وانتقلت طهران وواشنطن من علاقة العداء المُستحكم الى علاقة التدرّج في التفاهم، وانعقد أيضاً في هذا المناخ مؤتمر «جنيف - 2» الذي جَمع الاطراف السورية المعنية على طاولة واحدة، وإن لم يحقق نتائج ملموسة.غير انّ هذا المراقب الديبلوماسي نَبّه الى انّ اوباما ليس وحده صاحب القرار في واشنطن، وأنّ هناك نزاعات متعددة الاسباب والاشكال داخل ادارته، سواء في الكونغرس أو في مجمع الاستخبارات أو في البنتاغون، او في مجلس الامن القومي، او في الخارجية الاميركية، او في الحزب الديموقراطي (حزب الرئيس)، ناهيك عن الجمهوريين المتربّصين به.
وظهر تأثير معارضي سياسة اوباما بنحو واضح في الازمة الاوكرانية، حيث كان الانقلاب هناك ضربة موجعة لموسكو وإغراقاً لها في مشكلة خطيرة على حدودها ستترك انعكاسات على كل ما بَنته من علاقات ايجابية مع الغرب، وظنّ كثيرون يومها انّ الفخ الاوكراني سيكون شبيهاً بالفخ الأفغاني في الثمانينات الذي استنزَف الجيش السوفياتي، والذي يعتبره البعض أحد عوامل انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه.
ويضيف هذا المراقب الديبلوماسي انّ بوتين سرعان ما امتَصّ الضربة وبدأ يعدّ لردّ معاكس، ولكن بطريقة جراحية دقيقة لا تورّطه في المستنقع الاوكراني ولا تسمح للمتطرفين في واشنطن أن يستدرجوه الى مجابهة مع أوروبا عموماً، وألمانيا خصوصاً، لا بل حتى الى مجابهة مع اوباما نفسه، الذي يدرك بوتين أكثر من غيره حجم المأزق الذي يمرّ به.
ويضيف المراقب نفسه انّ الأشهر الماضية قد شهدت هجوماً مضاداً على موسكو وحلفائها، وأراد أصحابه ان يظهِروا للعالم انّ روسيا ليست كما ظنّ البعض قوّة كبرى في العالم، بل هي واحدة من تلك الدول التي يمكن انزال العقوبات الاقتصادية بها ومحاصرتها مالياً ومصرفياً، على غرار ما كان يفعله الاميركيون عادة مع أنظمة تخرج عن إملاءاتهم.
ولم يكتف أصحاب هذا الهجوم بأوكرانيا، حيث اعتمدوا هناك على الفاشية القومية التي تعتبر من مخلّفات النازية الهتلرية، بل تحوّلوا الى الشرق الاوسط ليُطلقوا وحش فاشية دينية متطرّفة تحرق من حولها الاخضر واليابس. وبَدا للجميع وكأنّ واشنطن ومعها إسرائيل قد استعادتا المبادرة ضد الدول الحليفة لموسكو. وجاءت الفاشية الاسرائيلية بعدوانها على غزة لتكون الحلقة الثالثة في هذا الهجوم الدولي المضاد. لكنّ هذا الهجوم تعثّر أوّل ما تعثّر في غزة، وكان صمود الفلسطينيين ووحدتهم سبباً في إحباط حلقة رئيسية من حلقات هذا المخطط.
ثم بدأ هجوم معاكس على جبهتين: جبهة الفاشية الاوكرانية، وجبهة الفاشية الفُراتية، وبدأت القوى الاوكرانية المدعومة روسيّاً تحقّق تقدماً ميدانياً في شرق البلاد وجنوبها الشرقي، وعَلا صوت البعض في واشنطن مُبرراً خسائر حلفائه بأنها ناجمة من حرب فعلية تخوضها روسيا في اوكرانيا. وأدرك الرئيس الاوكراني المنتخب أن لا بديل من تفاهم مع موسكو ومع القوى المطالبة بالفدرالية، وبدأت مراكز الابحاث الاميركية والمعلّقون الكبار يتحدثون عن فشل ذريع لواشنطن في اوكرانيا.
وعلى الجبهة الفراتية بَدا واضحاً انّ الحكومتين العراقية والسورية، ومعهما قوى محلية كالأكراد وغيرهم، استعادوا المبادرة من «داعش» التي لم تعد تلك القوة الكاسحة الماسحة التي اذا قررت وَضع يدها على منطقة ما سرعان ما تسقط، بل بدأ المواطنون على ضفّتي الفرات وفي سد الموصل وفي أقضية موزّعة بين العراق وسوريا يكتشفون انّ تنظيم «داعش» سرعان ما يرتبك ويتعثّر ويتراجع حين يجد مقاومة في وجهه، من دون التقليل بالطبع ممّا يملكه من قدرات ومقاتلين جاهزين للموت بهدف خدمة ما يعتقدونه.
ولقد اتضح للجميع انّ دعوة اوباما الى تحالف دولي لمكافحة الارهاب لم تنل الاجماع داخل واشنطن نفسها، فبدأ التردد يظهر على سياسات الادارة الاميركية بين تصريح لهذا المسؤول وتصريح لتلك المسؤولة، بين كلام الصباح وكلام المساء، وبين العراق وبين سوريا. وبَدا انّ التفاؤل الذي عقده البعض على هذا التحالف الدولي ما زال ضعيفاً، وانّ القوى المستهدفة بالارهاب عليها ان تعتمد على نفسها أولاً، خصوصاً انه، كما يقول أحد السياسيين العرب، انّ واشنطن اذا ارادت محاربة الارهاب فهي ليست بحاجة لإرسال طائرات وجيوش، يكفي ان تضغط على دوَل التمويل والتسليح وتمرير المسلحين وتشجيع التحريض المذهبي والطائفي، وهي دوَل ليست خارج إطار النفوذ الاميركي والاطلسي، فحينها يختنق الارهاب وتَجفّ منابعه ويصبح اقتلاعه أشبه باقتلاع شجرة يابسة منخورة الجذور.
وبهذا المعنى تكتسب دعوات أهمية خاصة، كدعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى وضع استراتيجية كبرى لمكافحة الارهاب تضمّ جميع القوى المعنية جدياً بهذا الهدف. فالرئيس بري، الذي هو أحد السياسيّين الراسخين في علوم لبنان والمنطقة، يدرك تماماً انّ مثل هذه الظواهر لا يواجهها بلد لوَحده، ولا فئة لوحدها، ولا حزب بمفرده، لأنّ خطرها يطاول الجميع، ومواجهتها مسؤولية الجميع.