لن ينتهي مأزق عرسال من دون غبار ودخان. السيناريوهات تتداخل، والواقعي فيها يختلط بالأسطوري. فـ داعش «جسمُها لَبّيس» لصناعة الأفلام، ولبنان طبيعته مناسبة لتصوير الأفلام، وأهله يتبرّعون دائماً بالأدوار والأكلاف!
بلغت المواجهة بين لبنان و«داعش» مرحلة مفصلية. لكنّ السلطة السياسية لم تكشف قراءة لبنان الرسمي أو معلوماته حول روزنامة «داعش» اللبنانية: ماذا تريد؟ أيّ مناطق تعمل للسيطرة عليها؟ وما الأفق الذي تطمح إليه من خلال هذه السيطرة؟ وفي كلمة: أيّ رابط بين حراك «داعش» اللبناني وحراكها السوري - العراقي؟فالسلطة السياسية مُصابة بالإرباك. ولذلك، خرج قائد الجيش العماد جان قهوجي على الرأي العام شارحاً تصَوّر الجيش لخطة «داعش»: «إنها تعمل ليكون لها منفذ على البحر، بعد اجتياحها عكار». ويبدو أنّ قائد الجيش يستند إلى تقاطع دولي للمعلومات، والدليل هو أنّ وزير الخارجية البريطاني ديفيد كامرون أعلن أنّ «داعش» تعمل لبلوغ البحر المتوسط.
ويبدو منطقياً أن تعمل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، المترامية الأطراف بين الموصل والرقة، بحدود 300 ألف كلم2، لتحظى بمنفذ بحري، خصوصاً إذا كان مرسوماً لها العيش في مرحلة مقبلة.
ففي العراق، لن تسمح إيران بوصول «داعش» إلى شطّ العرب، النافذة العراقية الضيّقة على البحر. أمّا في سوريا، فالمحاولات لفَتح منفذ عند الساحل باءت بالفشل، وانتهت المعركة هناك بإحكام السيطرة العلوية. ولا يتّسِع الساحل السوري لمنفذين سنّي وعلوي، مع أن تركيا جرّبت أخيراً فتح خط ضيق جداً على البحر، في محاذاة حدودها السورية لدولة «داعش»، لكنّ المحاولة عقيمة.
إذاً، هل تجرِّب «داعش» اليوم فتح منفذها البحري في لبنان؟
هي ستفعل ذلك، لكن هناك استحالة في قدرتها على ذلك لأسباب عدة:
1- ليس لبنان جزءاً من منطقة نفوذ «داعش»، وهو لن يكون في أي ظرف. والغطاء الإقليمي - الدولي لاستمرار لبنان بلداً موحَّداً، ضمن أطر سياسية جديدة، يمنع «داعش» من اقتطاع أيّ جزء منه.
2- إذا كان التنظيم راغباً في ربط دولته بالبحر، في عكار وطرابلس، فعليه أن يسيطر على منطقة سورية شاسعة، من القلمون إلى الرقة. وهذا أمر مستحيل. وعليه أيضاً أن يسيطر على المنطقة الممتدة من عرسال إلى عكار فطرابلس، وهذا أمر أكثر استحالة، لأنّ «حزب الله» والجيش اللبناني قادران على مَنعه.
3- يصعُب على السنّة اللبنانيين، أيّاً تكن ظروفهم، ومهما عَظمت مآخذهم على «حزب الله»، أن يقعوا في غرام «داعش» وأخواتها. فالمزاج السنّي اللبناني يغلب عليه الاعتدال، ولو لَفحَ بعضه التشدُّد، ظرفياً. وليس صدفة أن تكون النقمة في ملفّ العسكريين المخطوفين عَكاريّة في الدرجة الأولى.
لذلك، إنّ فكرة «المنفذ البحري» في عكار مطروحة واقعياً لدى «داعش»، لكنّ تنفيذها سرابي. والتقاسُم الواقعي لمناطق النفوذ، في الشرق الأوسط الذي يجري تظهيره شيئاً فشيئاً، لن يمنح «داعش»، على الأرجح، أيّ منفذ بحري لا في لبنان ولا سواه.
وعلى العكس، ستكون معركة عرسال ورقة رابحة في يد التحالف الناشئ حديثاً «ضد الإرهاب»، والذي يجمَع الرئيس بشار الأسد والغرب. وسيكون لبنان الرسمي، وكذلك «حزب الله» واقعياً، جزءاً من هذا التحالف الذي أطلَّ «رمزياً» مع السلاح الأميركي الآتي عبر مطار بيروت.
والأرجح أنّ الأسد وحلفاءه سيستثمرون الدعم الدولي والغطاء العربي لخوض معركة حاسمة في بقعة القلمون - عرسال. ففي سوريا، يَسدُّ الأسد كل الثغرات التي تخترق التواصل في خط دمشق - حمص - الساحل. وفي لبنان، يسيطر «حزب الله» على كامل البقاع، بما يُتيح له الترابط مع الجنوب، وربما يتمدّد من الهرمل إلى مناطق شمالية.
وفي عبارة أكثر وضوحاً: «ترتيب» المنطقة المحاذية على ضفتي الحدود اللبنانية - السورية... الشكلية!
فأيّ منفذ بحري يُراد بلوغه، عندئذٍ، في عكار؟ وأيّ دور تكون «داعش» قد أدّته في اللعبة الجارية ما بين لبنان وسوريا؟