بعد عرسال، إنتهى المزاح: الأميركيون والرئيس بشّار الأسد شريكان... لا في الجريمة (كما في عهد الكيماوي)، بل في مكافحتها (كما في عهد «داعش»). وعلى اللبنانيين أن يتوقّعوا ما لم يكن يتوقّعه إلّا القلائل منهم!
أعلنَ وزير الخارجية السوري وليد المعلم أنّ الأسد مستعدٌّ للتعاون مع واشنطن لمكافحة «الإرهاب». ولا شيء في هذا الإعلان يدعو إلى الدهشة. فالأميركيون، خصوصاً بعد التصفية الشنيعة لصحافي أميركي، «نضجَت» لديهم أيضاً فكرة التعاون مع الأسد، ومع إيران وحكومة بغداد والأكراد والأردن ومصر والسلطة الفلسطينية ولبنان ودوَل مجلس التعاون الخليجي، ضدّ «الإرهاب». وهذا التعاون يتمّ بالشراكة مع أوروبا وروسيا.فمَن يبقى خارج «التعاون»؟ هل هما تركيا وقطر وحدهما؟
ما من خبير أو محلِّل يعتقد أنّ بلداً صغيراً في حجم قطر، هو مركز لقاعدة أميركية جبّارة، وله إرتباطات تمثيلية بإسرائيل، يمتلك القدرة على مواجهة واشنطن. وما من أحد يعتقد أنّ بلداً كتركيا، تهزُّه الأزمات السياسية والإقتصادية والديموغرافية، على حدود البلدان الملتهبة، جديرٌ بمواجهة العالم.
والأرجح أنّ البلدين سيوقفان التعاون مع «داعش» و»النصرة» وأخواتهما عندما يُطلب إليهما ذلك، فتقع الجماعات «التكفيرية» في نقص حادٍّ في التموين، بالمال والسلاح، خصوصاً إذا فَقدت منابع النفط العراقي التي سيطرَت عليها في الأشهر الأخيرة.
وسيتبيَّن أنّ «داعش» هي أداة جرى خلقُها و»نفشُها» وتضخيمُ دورها لبلوغ غايات إستراتيجية معينة، أي لتبرير إبقاء أنظمة وفرط أخرى، وإبقاء دول وفرط أخرى. وفي الخلاصة، فرض مخطط الشرذمة والتصارع اللامتناهي في الشرق الأوسط، لمصلحة إسرائيل في الدرجة الأولى والأخيرة.
ويجدر السؤال أيضاً: ماذا يعني أن يتعاون الأميركيون والأسد والآخرون ضد «داعش»؟ وكيف يمكن أن يُترجَم ذلك؟
ألِف باء التعاون ليس بقاء الأسد في السلطة. فهذا مضمون منذ اللحظة الأولى للصراع. إنّما التعاون يستدعي تقديمَ واشنطن والمجتمع الدولي دعماً للأسد يؤهّله المساهمة في ضرب «داعش» وأخواتها. وهنا «بيت القصيد».
لا يمكن تقديم «نصف دعم» للأسد إذا كان مطلوباً منه «دور فاعل» في ضرب الإرهاب. وعلى الأرجح، سيشترط الأسد «دعماً كاملاً» له كي يقبل بالمشاركة، بل سيطلب «كارت بلانش». وسيوافق الأميركيّون لأن لا خيار آخر لهم.
مستلزمات الـ«كارت بلانش»- في مفهوم الأسد - هي أن يعود إلى موقعه ودوره «التقليدي» في المنطقة، كما كان قبل اندلاع الحرب في سوريا، بل إلى ما قبل الانقلاب الأميركي عليه، في عهد الثنائي جورج بوش- جاك شيراك، وقانون «محاسبة سوريا»، وفرض انسحابها من لبنان في العام 2005.
سيطالب الأسد بشراكة كاملة شاملة ضدّ «داعش»، فتستفيد منها حكومة بغداد وإيران والأكراد، ويطمئنُّ إليها عرب الخليج والأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، ويستثمرها «حزب الله» وحلفاؤه في لبنان. وإذا تمّ ذلك للأسد، فستكون السُبل مفتوحة لمعادلات جديدة في المنطقة، تقلب الأمور رأساً على عقب. والأصحُّ هو أنّ السُبلَ ستكون مفتوحة لتعويم معادلات سابقة، أي تلك التي كان فيها الأسد «متعهِّد ورشة الاستقرار الإقليمي».
في تلك المرحلة، مارسَ الأميركيون والفرنسيون دوراً حربائياً. فكانوا يباركون للأسد وصدّام حسين وحسني مبارك ومعمّر القذافي وزين العابدين بن عليّ وسائر الأشقّاء في قمعِ الديموقراطية في بلدانهم ومجتمعاتهم، وما زالوا. وأمّا لبنان، حيث لا نظام، فكان مُطوَّباً للوصاية السورية بالوثائق السرّية والعلنية، وبالممارسة.
من هنا، فاللبنانيون المتبصِّرون تنتابهم اليوم كوابيس الماضي: هل أزمة عرسال، ومحاولات إغراق الجيش في مستنقعها، ولغز المخطوفين العسكريين، وما قد يطرأ من تطوّرات مشابهة في مناطق أخرى في توقيت مدروس، ستبرِّر التنسيق الرسمي اللبناني المطلوب، مع الأسد، لـ»ضرب الإرهاب»؟ وهل ستطلب واشنطن من لبنان أن ينصاع إلى مطالب الأسد، وهل ستُجبره على ذلك، كما كانت تفعل لعشرات السنين؟ وهل سيبلغ ذلك حدود استعادة نوع من الوصاية؟ وما هي هذه الحدود؟
ربّما على اللبنانيين أن يستعينوا بالوسادات الواقية لمواجهة الصدمات والمطبّات الهوائية الآتية!