يتفق أكثر روّاد الاصلاح في البلاد الاسلامية أن أي عملية أصلاح سواء كانت دينية أو إجتماعية , تبدأ بإصلاح الفكر , وتفعيل فاعلية العقل , لان الفكر هو المسؤول عن السلوكيات وهو الحاكم عليها , والفكر مسؤول عن فهم الواقع المحيط بالإنسان , والعقل مسؤول عن إنتاج الفكر , فثمة تلازم بين العقل والفكر , فلا بد من إذكاء العقل بمؤثرات علمية صحيحة وتشكّله بطرق منهجية صحيحة كي ينتج فكرا صحيحا .
فعقل الانسان يتشكل ويتكوّن من خلال عوامل متعددة منها الدين والثقافة المحيطة به , والتربية , والعلوم التي يتلقاها , وظروف موضوعية لها علاقة بالاقتصاد والامن والسياسة , فلا بد لعقل الانسان من أن يمرّ بهذه المراحل قبل أن يتكامل ويصبح في مرحلة الانتاج , فعندما يصبح في مرحلة الانتاج فمن الطبيعي أن تكون حركة العقل وفاعليته متأثرة بعوامل تشكله .
هذه العوامل كما قلنا هي المسؤولة عن تشكيل بنية العقل الانساني , فكما أن العقل مسؤول عن إنتاج وتشكيل فكرٍ ما , ويكون الفكر المُنتج والمتشكِل نسخة مشابهة للعقل الذي أنتجه , كذلك العقل المتشكِل هو عبارة عن نسخة مشابهة للعوامل والظروف التي شكلته وأنتجته .
هكذا وبهذه المنهجيات تبني الاحزاب عقول أتباعها , فلا غرابة عندما نرى عقلا مستقيلا في حزب ما , أو عقلا يعيش أزمة دينية او سياسية في مجتمعاتنا , فالاحزاب تضع عقل الانسان في عوامل وظروف لا تنتج إلا عقولا مستقيلة مستسلمة , لا تناقش , ولا تسأل , ولا تقبل نقدا , " وكل حزب بما لديهم فرحون " .
فلا يوجد في برامج الاحزاب في البلاد الاسلامية أولويات إصلاحية , لا على المستوى الديني ولا على المستوى الانمائي الذي يشمل التربية والعلوم والاقتصاد والامن والسياسة , وهذا سرّ إخفاق الاحزاب وتحوّلها إلى مشكلة وطنية في الشرق , وعائق كبير أمام تشكيل دولة القانون والمؤسسات , فالظاهر أن حركة الاصلاح وتفعيل حركة العقل يتناقض مع أهداف العقلية الحزبية , يمكن أن يكون ذلك سببه أن فكرة الاحزاب ليست وليدة الداخل , بل هي فكرة مستوردة من الخارج , من مجتمعات أسست أحزابا لمساعدة الدولة على إرساء قواعدها , فنجحت الاحزاب هناك في أن تكون جزءا من الدولة , وأخفقت هنا .
منذ مطلع القرن العشرين وُجدت الاحزاب في البلاد الاسلامية , فمنها من إستطاع إستلام السلطة , ومنها مَنْ حاول وفشل , ومنها مَنْ لم يحاول , وتوالت الاحزاب بكل العناوين من قومية وإسلامية وغيرهما , ومنها مَنْ تلاشى وإختفى , ومنها من لم يزل يصرّ على نفس الشعارات التي بادت وإهترأت , ومنذ تلك الحقبة لا إنماء ولا إصلاح ولا حتى أمل في الانماء والاصلاح على كل الصُعُد .
فشل ما بعده فشل , وتخلّف ما بعده تخلّف , والمضحك المبكي أننا نحمّل مسؤولية هذا إلى الغرب والاستعمار والمؤامرة , ونتمسك بمقولة المؤامرة , ونزجّ بها في كل تفاصيل حياتنا , حتى أني سمعت رجلا يقول إن إمراته تتآمر عليه لأنها طلبت الطلاق منه بعد أن ضربها .
ونتناسى أن الغرب والاستعمار والمؤامرة لا يمكن أن ينجحوا , لولا وجود قابلية ذاتية عندنا , والقابلية هذه نحن المسؤولون عن وجودها , وعن تكريسها كثقافة سائدة بين الناس , ليس فقط من خلال تعطيل فاعلية العقل , بل من خلال تعطيل فعليته أيضا .
فالدين كعامل أساسي في مجتمعاتنا قد قُدّم للناس بطريقة مشوهة , فلعب حينئذٍ دورا سلبيا في تعطيل حركة العقل الاصلاحية , واستقال العقل الديني من مسؤوليته , التي هي تديين السياسة وليس العكس , وأعانه على ذلك سلطات سياسية مستبدة لا تريد للدين أن يراقب السياسة لأنه قد يفضح سياسات الحكام , ومنعت السطة السياسة الاصلاح الديني مستعينة برجال دين سلطويين لهم مصالح شخصية مع الحاكم , فلما عُطل ومُنع الاصلاح الديني فسدت السياسات والسلطات والحكام , وتاليا فسد الانماء , وفساد الانماء يُنتج فسادا إقتصاديا وإجتماعيا ونفسيا .