كشفَ مصدر مُطّلع أنّ واشنطن أبلغَت إلى دمشق منذ أشهر، وعبر الأقنية غير المباشرة بين البلدين، أنّ البيت الأبيض والبنتاغون وكثيراً من المسؤولين الأميركيين باتوا على اقتناع بأنّ النظام السوري لن يسقط، وأنّ الرئيس بشّار الأسد لن يتنحّى.
لكنّ واشنطن، وعِبر أكثر من مسؤول فيها، كانت تحرص على الإبلاغ الى دمشق، أنّها قد ذهبت بعيداً، وعلى لسان رئيسها باراك اوباما، بالدعوة الى تنحّي الأسد، وهي لا تستطيع أن تنقلب بين ليلة وضحاها على ذلك الموقف، خصوصاً أنّها تواجه داخلَ المؤسسات الاميركية والإعلام الاميركي ضغطاً هائلاً من أجل إسقاط النظام السوري.وسألت واشنطن يومها عن السبيل الى التراجع عن السقف العالي لمواقفها من الأسد، فكانت النصيحة آنذاك بأن ليس لها إلّا رفع شعار مكافحة الإرهاب وإعطاء الأولوية له، وتحت إطار مكافحة الإرهاب يمكن ان يبدأ تعاون وتنسيق أمني وسياسي بينها وبين دمشق، فيما بدأ التركيز في الإعلام الغربي عموماً، والإعلام الأميركي خصوصاً، على ضعف المعارضة المعتدلة التي وصفَها أوباما بـ"الفانتازيا، وعلى وحشية المعارضة المتطرفة وجرائمها ومجازرها التي بلغَت ذروتها مع انتشار صوَر الإعدام الوحشي للصحافي الاميركي جيمس فولي، وكذلك للمجازر التي ارتكبتها "داعش" في شمال العراق.
وجاء إعدام فولي بمثابة نقطة تحوُّل في السياسة الاميركية، ومعها السياسات الغربية تجاه دمشق، وبات واضحاً وكأنّ "أمر عمليات" قد صدر، فتتالت الاحداث وتسارعت، وكان أوّلها قرار مجلس الأمن الرقم 2710 الذي اعلن الحرب على "داعش" و"جبهة النصرة" وعلى كلّ من يساندهما بالمال أو السلاح أو بتسهيل مهمتهما. وصدرت تصريحات وفتاوى من المملكة العربية السعودية تعتبر "داعش" العدوّ الاوّل للإسلام، في وقت تردّدت انباء عن مناوشات عسكرية على الحدود العراقية ـ السعودية.
بعد ذلك جاء الاجتماع المفاجئ في جدّة لخمسِ دول تشكّل النواة العربية لمجموعة أصدقاء سوريا، وهو اجتماع احتضنَته الرياض ودعت اليه القاهرة بعد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للسعودية وروسيا والبيان المشترك بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي يتحدّث عن حلّ سياسي في سوريا وعن الدعوة إلى جنيف ـ 3.
وتزامنَت الدعوة إلى اجتماع جدّة مع تصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد طول غياب، يدعو فيها الدول الغربية والعربية الى التعاون مع الأسد في مكافحة الإرهاب.
كذلك تزامنَت هذه التصريحات وبيانَ جدّة الذي شدّد على ضرورة إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، وركّز على خطر "داعش" مع المؤتمر الصحافي المفاجئ لوزير الخارجية السوري وليد المعلّم الذي أعلن تأييد بلاده قرار مجلس الأمن وإنْ جاء متأخّراً، واستعدادها للتعاون والتنسيق مع كلّ جهد اقليمي أو دولي لمكافحة الإرهاب، مذكّراً بأنّ هذا الشعار رفعته سوريا منذ سنوات ونبّهت إلى أنّ خطر الإرهاب لن يكون محصوراً بها وحدها. وهذا ما جاءت الأحداث لتؤكّده.
ولقد جاءت زيارة مساعد وزير الخارجية الايراني أمير عبداللهيان للرياض أمس واجتماعه بوزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل لتُظهرَ أنّ وراء الأَكَمة ما وراءها، وأنّ مناخاً جديداً يولد في هذه اللحظات.
وكان لافتاً أن تأتي أخبار استيلاء "داعش" على مطار الطبقة والسيطرة على محافظة الرقّة بكاملها، فيما كان الوزراء العرب مجتمعين في جدّة ومعهم قطر، على رغم ما بينها وبين مصر من أزمة ملتهبة، وبينها وبين شقيقاتها الخليجيات من أزمة كان لانفجارها موعدٌ هو اليوم نفسه الذي توجّه فيه وزير خارجيتها الى الرياض.
ولا يخفي هذا المصدر المُطّلع أيضاً أنّ إجراءات تركيّة قد بدأت تخرج الى العلن في التضييق على "داعش" ومسلّحيها، خصوصاً بعد أن وصل هذا التنظيم الى تخوم الحدود السورية ـ التركية، بما بات يشكّل خطراً على تركيا من شمال سوريا، بالإضافة الى خطر بدأ يشكّله على السعودية، وحتى الأردن، انطلاقاً من حدودهما مع العراق.
وفي غمرة هذه التطوّرات المتسارعة بنحو قياسيّ، ارتفع الحديث عن تحالف إقليمي ـ دولي ضد "داعش"، وبدأ الإعلام الغربي يبرّر لهذا التحالف الذي تقف دمشق في موضع القلب منه، لأنّه شبيه بتحالف الغرب مع روسيا لمواجهة الخطر النازي إبّان الحرب العالمية الثانية.
ولقد أشارت "الجمهورية" مراراً إلى احتمال تطوّر الاحداث في المنطقة في هذا الاتّجاه، وبدا للعالم كلّه أنّ الحديث عن تدخّل عسكري اميركي ضد النظام السوري في مثل هذه الايام قبل عام انتقلَ إلى حديثٍ عن تدخّل عسكري اميركي بالتعاون مع النظام نفسِه الذي كان هدفاً لحربٍ أميركية على مدى السنوات الثلاث الماضية.
ومن المفارقات اللافتة أنّ وزير الدفاع البريطاني السابق الذي كان من أبرز المتحمّسين لتدخّل بلاده عسكرياً في سوريا قبل عام هو أكثر المتحمّسين اليوم لتحالف مع الأسد في مواجهة الإرهاب.
ويبدو أنّ المجموعات المسلحة قد أدركت خطورة التهديدات التي تواجهها، فسارعت إلى إطلاق مخطوف أميركي كان ممكناً أن يكون مصيره كمصير الصحافي فولي لولا هذه التهديدات.
ويختتم المصدر المطلع نفسُه بالقول ساخراً: "لقد كانت واشنطن وحلفاؤها يُعبِّئون الرأي العام العربي والعالمي قبل عام من أجل شنّ حرب على سوريا، وإذا بهم في الذكرى الأولى لتلك الحرب التي لم تقع يُعبّئون الرأي العام العربي والعالمي لقبول دمشق ومعها بغداد وطهران أطرافاً أساسية في تحالف إقليمي ـ دولي ضدّ الإرهاب.
ويبقى السؤال: هل يستطيع أوباما أن ينتصر على معارضيه المتشدّدين في واشنطن؟ أم أنّه سيضطرّ إلى التراجع عن خطته الجديدة ويُبقي مصير سوريا والعراق ودول المنطقة معلقاً أمام تنظيمٍ يبدو أنّه الأداة المثلى لخلق "الفوضى الخلّاقة" التي طالما تَغَنّى بها المحافظون الجُدد ومشروعهم للشرق الأوسط الجديد؟