أخطَر ما قامت به «داعش» هو أنها نَصَّبَت نفسها الشريك، أو العدوّ، الذي لا يمكن تجاوزه. ففي العراق، بقيَت وحدها مقابل إيران. وفي سوريا، بقيَت وحدها مقابل الأسد. ولا حيثية حقيقية لأيّ طرف آخر في البلدين، بإستثناء الأكراد الذين ضرَبوا طوق الحماية الدولية حول مناطقهم.
مَن أوجَد «داعش»؟ مَن يُزوِّدها بكميات هائلة من المال والسلاح؟ وكيف أُتيح لها أن تمحو كل القوى المتصارعة مع المحور الإيراني في العراق وسوريا، وأن تحتكر الساحة في سِحر ساحر؟الإجابة مليئة بالألغاز. فالمعارضة السورية تشتبه بوجود تنسيق في بعض الأماكن بين النظام و»داعش»، أو بأنهما يعملان لتقاسم النفوذ على الخريطة السورية، بعد القضاء على «الجيش السوري الحرّ».
ولكنّ هذه النظرية تتناقض مع كَون قطر وتركيا هما الداعم الأساسي لـ»داعش»، ومنهما تتلقّى التغطية والمال والسلاح... إلّا إذا إفترض البعض أنّ هناك تنسيقاً ضمنياً بين النظام وإيران من جهة، وقطر وتركيا من جهة أخرى، وأنّ هذا التنسيق موجّه ضدّ محور الإعتدال السنّي الذي تمثله السعودية!
وهنا، تتداخل النظريات. فثمّة مَن يعتقد أنّ الأسد، الطامح إلى إيقاظ الهواجس الغربية والعربية من تنظيم «القاعدة»، سهَّل نموّ «داعش»، لكي تأكل «الجيش السوري الحرّ»، بحيث يستحيل بعد ذلك القبول بمطلب إسقاط النظام. وهذا ما يحصل اليوم، إذ يبدو الأسد حاجة ماسّة وشريكاً للمجتمع الدولي في مواجهة «الإرهاب التكفيري».
بل إنّ السعودية التي دعمت تنظيمات متشدِّدة عندما كانت تخوض حرباً لا هوادة فيها لإسقاط النظام السوري، بمختلف الوسائل، باتت اليوم راغبة في محاصرة «داعش» بعدما إكتشفت أنها قد تكون ضحية لها. ودور السعودية والرئيس سعد الحريري في أحداث عرسال يُترجم لذلك.
إذاً، إنّ «داعش» هي لعبة معقّدة تتداخل فيها عناصر متناقضة. فالأعداء يدعمون الأعداء على قاعدة «عدوّ عدوّي صديقي»، علماً أنّ الخط الفاصل ظاهرياً بين «الأعداء» و»الأصدقاء» ربما يكون وهمياً. وفي العمق، لا بدّ أن تكشف الأيام معلومات مثيرة وخطرة عن «داعش» تبدِّل إقتناعات كثيرة.
وهنا يجدر التبصُّر في ما شهدته بقعة القلمون- عرسال في الأشهر الأخيرة. فعندما سقطت يبرود ومحيطها، أعلن النظام أنه إنتصر على «داعش» و«النصرة» هناك، وأنه على وشك تنظيف القلمون بكامله. وبقيَت قرى قليلة واقعة إلى الجنوب في أيدي المتشدّدين.
ولكن، فجأة، أوقف النظام تقدّمه في القلمون، وإنسحب من مناطق حدودية مع لبنان، كان يسيطر عليها مرتاحاً. وتردّد أنّ النظام أراد تعطيل أيّ خطة لإقامة مخيّمات للاجئين السوريين إلى لبنان في هذه المناطق.
إذاً، ما يحصل في القلمون غامض. وأساساً فاجأ سقوط يبرود الخبراء العسكريين الذين كانوا يعتقدون أنّ المعركة هناك طويلة جداً، نظراً إلى الطبيعة الجبلية الصعبة وتخندق الميليشيات المعارضة فيها، وخوضها المعارك بأسلوب حرب العصابات. لكنّ ما جرى هو إعلان النظام سيطرته على يبرود ومحيطها، بالتزامن مع صفقة أطلقت راهبات معلولا، بوساطة قطرية- تركية.
هذه المعطيات الأساسية يجدر التنويه بها عند البحث في العلاقة الغامضة، أو العداوة الغامضة، بين «داعش» ومحور إيران- الأسد. فلا شك في أنّ النظام يفضِّل أن تسيطر «داعش» على مناطق «الجيش السوري الحرّ». وعملياً، لم تحارب «داعش» النظام، بل حاربت المعارضة المعتدلة وتكفَّلت بقتلها تماماً!
المرجّح هو أنّ النظام إستثمر «داعش» لتصفية المعارضة، وهو بها يلمّع دوره كشريك في الحرب على الإرهاب، ويغسل ذنوبه، ومنها الكيماوي. وربما هو تمكّن من خرق بعض مجموعاتها، لكنّ الكلام على تبعية «داعش» التامة للنظام يبدو مبالغاً فيه.
والغموض الذي يكتنف نشوء «داعش» وعلاقاتها المعقدة مع «الأعداء»، هو جزء من اللغز الشرق أوسطي. فـ«داعش» هي أداة لتنفيذ أعمال مسرحية آتية، يشارك الإسرائيليون في كتابتها وإخراجها. وعندما تنجلّي حقائق «داعش»، سيدرك الجميع ما حدث في الشرق الأوسط، منذ إنطلاق ما سمّي زوراً آنذاك «الربيع العربي»، هذا «الربيع» الذي ضربه الجفاف المبكر وإندلعت فيه الحرائق.