إنعقدت في أحد مراكز الدراسات الغربية في الآونة الأخيرة حلقات نقاش عدّة ركّزَت على فهم ظاهرة تنظيم «داعش» واحتمالات تمدّدِه، والمخاطر التي ينطوي عليها هذا التمدّد.
بعض المحللين الاستراتيجيين العاملين في هذا المركز دعا إلى عدم الاستخفاف بهذه الظاهرة، والتعامل معها بدرجة عالية من الجدّية، لأنّها في حال انفلاشها لا تشكّل خطراً على وحدة المجتمعات والكيانات الوطنية، ولا تهدّد نمطَ الحياة الإسلامي المعتدل السائد في دوَل المنطقة فقط، بل إنّها تحمل خطرَين يُقلقان الغرب شعوباً وحكوماتٍ: أوّلهما هو تهديد الأمن الداخلي من دوَل الغرب. وثانيهما تهديد التدفّق الهادئ للإنتاج النفطي في دوَل الخليج.كذلك دعا هؤلاء المحللون إلى الانتباه لجاذبية شعار «الخلافة» لدى قطاعات واسعة من المسلمين والتي ما زالت تعتقد أنّه منذ انهيار الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى، انهارَت المنطقة كلها وسقطت فلسطين في يد الصهيونية، فيما سقطت الدول الأخرى تحت حكم الاستعمار المباشر أو غير المباشر.
وأضاف هؤلاء المحللون أنّه «مثلما كان لشعار «ولاية الفقيه» جاذبيتُه لدى شرائح واسعة من المسلمين الشيعة، والتي تفتقد إلى قائد مرجعي يقود الأمّة، فإنّ لشعار «الخلافة» جاذبيته لدى أوساط واسعة من المسلمين السُنّة في كلّ أنحاء العالم، لأنّهم يرون فيها دعوةً إلى توحيد بلاد المسلمين، بما يؤدي إلى استقلالهم وتماسكهم وقوّتهم.
وفي الحلقة نفسِها برز رأيٌ مناقض ينطلق من مخاطر المبالغة في خطر «داعش»، وانضوى في هذا الفريق مجموعتان إحداهما أكاديمية بحتة تتعامل مع الوقائع من دون إفراط أو تفريط، فيما المجموعة الثانية متأثّرة باللوبي الصهيوني والمحافظين الجُدد الذين يرون في «داعش» وأخواتها أدوات فعّالة لنشر «الفوضى الخَلّاقة» في المنطقة، ولإثارة كلّ أنواع الاحتراب الطائفي والمذهبي والإثني.
المجموعة الأولى في هذا الفريق تعتقد أنّ قوّة «داعش» نابعةٌ من ضعف خصومها، فهي لم تحقّق انتصاراً عسكرياً واحداً ذا وزنٍ، وظروفُ سيطرتها على مدينة الموصل وبعض المدن العراقية باتت معروفة، حيث اجتمعَت لتأمين تلك السيطرة حالُ احتقان شعبيّ عالي التوتّر في غرب العراق مع تواطؤ بعض القادة العسكريين الذين يعتقد البعض أنّ تواطؤَهم لم يكن بعيداً من توجيهات مركزية في بغداد تريد التخلّص من عبء المناطق ذات الغالبية السنّية.
وفي رأي المجموعة نفسها أنّ أحد أسباب بروز ظاهرة «داعش» هو أنّ لجميعِ الأطراف المعنية بالأوضاع في المنطقة مصلحتها في تضخيم «داعش». فلرئيس الوزراء العراقي المتنحّي نوري المالكي وأنصاره مصلحة في تضخيم «داعش» من أجل إثارة مخاوف أطراف شيعية معارضة لهم، أو قوى إقليمية كإيران مثلاً لم تعُد مقتنعة بسياسات المالكي وقدرته على الإمساك بالوضع في العراق.
ومعارضو المالكي من العشائر والضبّاط السابقين في الجيش العراقي وتنظيمات المقاومة التي قاتلت الأميركيين، وكذلك رجال الطريقة النقشبندية الذين تربطهم بالبعثيين علاقات متينة لهم مصلحة في تضخيم خطر «داعش» بغية الضغط على المالكي وداعميه لإخراجه من رئاسة الحكومة.
حتى إنّ رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني كان يعتقد أنّه يستطيع استخدام «داعش» لإجبار الحكومة العراقية المركزية على القبول بمطالب الإقليم السياسية والنفطية والمالية، فسارَع إلى احتلال مدينة كركوك، وردّت «داعش» وحلفاؤها بتهديد أربيل، ما دفعَ مجموعة جهات متعارضة الى أن تهرع لحماية أربيل بدءاً من الحكومة المركزية، على رغم خلافها الشديد معها، وصولاً إلى الولايات المتحدة الاميركية التي لها مصالح أمنية واقتصادية كبرى في إقليم كردستان، ناهيك عن اسرائيل نفسها التي تنتشر أخبارٌ عن تغلغل «موسادها» في عاصمة إقليم كردستان.
وعلى مستوى العلاقات السورية ـ الاميركية والعلاقات السورية ـ الخليجية وصولاً إلى العلاقات السورية ـ التركية، فإنّ تضخيم دور «داعش» هو الغطاء الفعلي لمصالحات بين الرئيس بشّار الأسد وبين مَن كان يطالب بتنحّيه الفوري.
ويعتقد هؤلاء الأكاديميون الذين يدعون إلى عدم المبالغة في تضخيم مخاطر «داعش» أنّ أيّ مؤتمر إقليمي ـ دولي لمكافحة الإرهاب كفيل بخنق هذه الظاهرة وتجفيف منابعها والاقتصاص من داعميها، حسبما جاء في قرار مجلس الامن الدولي الاخير الذي يعتبر «داعش» و»جبهة النصرة» منظمتين إرهابيتين، ويدين كلَّ جهة تدعمهما، وصولاً إلى تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة عليهما.
وتشير هذه المجموعة الى أنّ صوَر مقتل الصحافي الاميركي جون فولي بالطريقة التي ارتكبت فيها «داعش» هذه الجريمة ستعطي دفعاً قوياً للرئيس باراك اوباما وتياره داخل الإدارة الاميركية للانخراط في الحرب ضد الإرهاب وإخضاع كلّ تناقض له مع إيران أو سوريا لمصحلة التناقض الرئيسي مع الإرهاب. وقد برزت مؤشّرات عدّة على لسان مسؤولين اميركيين وأوروبيين لكي تمهّد الجوّ لمثل هذا الانقلاب المتوقّع في النظرة الاميركية والغربية الى سوريا وإيران.
وتشير المجموعة نفسها الى أنّ تململاً واضحاً على المستوى الشعبي في المناطق التي تسيطر عليها «داعش»، واعتراضات متصاعدة على ممارستها وسلوكها سيجفّفان المنابت الشعبية لهذه الظاهرة التي يقول أبناء هذه المناطق إنّها قتلت من معارضيها الذين ينتمون الى الأصول العقائدية والفكرية ذاتها أكثر مما قتلته في بيئات أخرى، وبين أفراد الجيوش النظامية.
ويصرّ هؤلاء على أنّ «داعش»، رغم الإغراءات العقائدية التي يمثّلها خطابها، ورغم تطوّرات وسائلها في جذب الشباب، بما فيها الأغاني والاناشيد والخطاب الدعَوي، فإنّ قوّتها تكمن في دور وظيفيّ لها تشارك كلُّ الجهات المعنية في تغذيتِه والاستفادة منه إلى حين.
فيما يسعى تنظيم «داعش» الى الاستفادة من هذه الظروف التي تريد استخدامه وظيفياً من أجل توظيفها لمصلحة استراتيجيته طامحة الى بناء دولة منتشرة في بلاد الرافدين وبلاد الشام وأرض الجزيرة العربية في هذه المرحلة، وصولاً إلى مصر ودول المغرب العربي، وحتى تركيا في مرحلة أخرى.
ولعلّ ما كشفه الناطق باسم «داعش» عن إعدام قياديّ كبير في التنظيم بسبب عمالتِه لمخابرات غربية، يكشف بوضوح عن حجم «الاختراقات النائمة» في هذا التنظيم والتي لا يُستبعد أن تستفيق في الوقت المناسب.