تصادف غداً الذكرى 32 لانتخاب الشيخ بشير الجميّل رئيساً للجمهورية. وقد ساهمَت مجموعة عوامل واعتبارات وطنية ومسيحية وسياسية وعسكرية وشخصية في جعلِ معظم المسيحيين يتوافقون على اعتبار الرئيس الشهيد أكثرَ مَن مثَّلَ ويُمثِّل الوجدانَ المسيحي.
إتّخذَت حرب العام 1975 بُعداً طائفياً مسيحياً-إسلامياً على رغم أنّ الانقسام كان من طبيعةٍ وطنية، ولا تختلف ظروفه وأسبابه ومسبّباته عن الوضع الحالي، ويتّصل برفض تحييد لبنان عن الصراع العربي-الإسرائيلي وتحميله وزرَ مقاومة أدّت إلى استباحة أرضه وشَلّ مؤسّساته وانفراط عقدِه الاجتماعي.وفي هذه الحرب التي كان يدافع فيها المسيحي عن فكرة لبنان وكانت له مساهمةٌ أساسية في بلورتِها ووضعِها قيدَ التنفيذ، والقائمة على مبدأ «لا شرق ولا غرب» وتَبديَة القضية اللبنانية على أية قضية أخرى واحترام التنوّع والتعدّدية وتقديس الحرّية، برزَ بشير الجميّل كمدافع شرس عن هذه القيَم التي تحوّلت مسيحيةً، فيما هي وطنية، بفعل الانقسام المسيحي-الإسلامي، الأمرُ الذي جعله بحُكم هذا الواقع رمزاً من رموز المقاومة المسيحية التي كانت عملياً مقاومة لبنانية صرفة.
وكان من الطبيعي أن يستدعي هذا الانقسام وطبيعةُ المرحلة وتحدياتها خطاباً مسيحياً استنهاضياً، فيما مضمونه وجوهره كان وطنياً بامتياز، ولا يخرج عن سياق الاتفاق التأسيسي الميثاقي للدولة اللبنانية.
فالأهداف التي رفعَها بشير باسم حزب الكتائب والقوّات اللبنانية والجبهة اللبنانية بقيَت هي نفسها قبل انتخابه رئيساً للجمهورية وبَعده، والاختلاف الوحيد كان في اللغة المستخدَمة والجهة الموجّه إليها، التي انتقلت من مسيحية إلى لبنانية، ولكنّه لم يتراجع قيدَ أنملة عن أولوية المسألة اللبنانية، وأولوية الدولة اللبنانية، ورفضَ أيّ سلاح خارجَها، مؤكّداً الالتزام بالشرعية المحَلية والعربية والدولية.
ولو شاءت الظروف والأقدار أن يكون انتخاب الشيخ بشير غداً لا في العام 1982، فماذا كان سيتضمّن خطابه لحظة انتخابه؟ والهدف من هذا التمرين مزدوج: مناسبة انتخاب بشير رئيساً بطبيعة الحال، وتجَدُّد الكلام العوني المسيحي-الطائفي.
فأوجُه الشبه بين الأمس واليوم كبيرة، باستثناء اختلاف طبيعة اللاعبين وانتقال الصراع من مسيحي-إسلامي إلى إسلامي-إسلامي، ولكنّ جوهر هذا الصراع أيضاً وطنيّ بامتياز، لأنّ الخلاف الفعلي ليس على حصّة الشيعي داخل الحُكم أو السُنّي أو المسيحي، كما حاولَ الوزير جبران باسيل تصويرَ الأمر، إنّما الخلاف هو على رفض «حزب الله» تسليمَ سلاحه للدولة اللبنانية، واستدراجِه الحروبَ يميناً ويساراً، كما رفضه تحييدَ لبنان وضبط الحدود والالتزام بمقتضى الشراكة الوطنية.
والخطر الفعلي لا يأتي من خارج الحدود، إنّما من داخلها، لأنّ غياب التوافق الداخلي يستدرج الحروب الخارجية والمطامع الدولية والإقليمية، وبالتالي الأولوية التي كان رفعَها بشير ليست التصدّي للخطر الداعشي والإسرائيلي والسوري والإيراني، إنّما لتحصين الساحة الداخلية من هذه الأخطار مجتمعةً، والتحصينُ يكون بتعزيز دور الدولة وحضورها ونفوذها وجعلها الآمرة الناهية وحدَها، من خلال إمساكها بالقرارات الاستراتيجية والقوّة المسلحة، خصوصاً أنّ هذه الدولة تجسّد المشترك بين كلّ اللبنانيين والقوى السياسية والطائفية على اختلافها.
فمواجهة الأخطار لا تكون من خارج الحدود وفئوياً، إنّما تكون من الداخل ووطنياً، لأنّ الانقسام الداخلي هو المعبَر للخطر الخارجي، وبالتالي الرئيس الشهيد كان دعا «حزب الله» صراحةً إلى تسليم سلاحه للدولة والخروج من سوريا، كما كان دعا المجتمعَ الدولي إلى توسيع مهامّ القرار 1701 تمهيداً لانتشار القوّات الدولية على الحدود اللبنانية-السورية، وكان دعا اللبنانيين إلى التوحّد حول الأولويات اللبنانية وجعلِ السيادة والاستقلال والحرّية والتعدّدية خطوطاً حُمراً ممنوعاً تجاوزُها.
وهذه الدعوة البشيرية تتناقض في الشكل والجوهر مع الخطاب العوني-الباسيلي الذي تجاهلَ كلّياً سلاحَ «حزب الله» وقتاله في سوريا، ووحدةَ الموقف الداخلي الذي ينبع من الأولوية الوطنية، وذهبَ باتّجاه خطابٍ مسيحيّ- فئويّ لا يشبه الخطاب المسيحي التاريخي، مُعدّداً بعضَ المطالب المُحقّة، والتي يتوقّف تحقيقها على استعادة الدولة لعافيتها وسيادتها، فما أهمّية التمثيل الفعلي متى كان فاقداً للقرار الوطني، وبالتالي المعبَرُ لاستعادةِ فعليةِ التمثيل تكون باستعادة القرار الوطني المسلوب، لا العكس.
وخطورةُ ما ذهبَ إليه باسيل أنّه يكمن في الآتي:
أوّلاً، قام برَبط نزاع مع المسلمين من زاوية مطالب مسيحية، ما يعني إدخالَ المسيحيين إلى صلب الصراع الفتنوي في المنطقة.
ثانياً، وضعَ المسيحيين في مواجهة مع السُنّة بتصويرهم داعشيّين في حال لم يستجيبوا إلى مطالب «التيار الوطني الحر» الذاتية والمصلحية الرئاسية لا الوطنية.
ثالثاً، ربطَ بين المسيحيين في لبنان والمسيحيين في سوريا والعراق على قاعدة وجود خطر مشترك، علماً أنّ المقارنة لا تجوز بين الوضعين.
رابعاً، تجاهلَ النظام الذي يقتل الناس بالبراميل، وتجاهلَ الطرَف الذي يغتال الناس بالعبوات المفخّخة، مُركّزاً فقط على داعش، علماً أنّ القتل والموت واحد ولو اختلفت الطريقة، فضلاً عن أنّ الإرهاب يستدعي الإرهاب، وبالتالي الموقف الوطني-الأخلاقي يجب أن يدين الإرهاب على أنواعه.
خامساً، في الوقت الذي قدّم فيه «حزب الله» تنازلات سياسية، كان يرفض مجرّد النقاش حولها، من أجل إشراك «المستقبل» في السلطة ليتكفّل بمواجهة التكفيريين، على رغم قوّته وتسَلّحه وشمسيته الإقليمية، يأتي باسيل ليستفزّ المسلمين بالجملة، متوعّداً إيّاهم بالصفة الداعشية، من دون أن يأخذ في الاعتبار خطورة هذا الموقف على المسيحيّين.
سادساً، مواجهة التكفيريين لا تتمّ إلّا بالتحالف مع الاعتدال الإسلامي القادر وحدَه على عزل الداعشية.
سابعاً، إستخدام الخطاب الطائفي لأغراض انتخابية وشعبوية سيجرّ الويلات على المسيحيين، وسيتحمّل «التيار الحر» وحدَه مسؤولية أيّ استهداف للمسيحيّين يستجديه بخطابه الطائفي.
ويبقى أنّ الأمل يتجدّد في ذكرى انتخاب الشيخ بشير بتغليب المسيحيين الاعتبارات الوطنية التي جعلت منهم طائفة مميّزة ورائدة، واستبعاد الاعتبارات الفئوية التي ستقضي عليهم هذه المرّة.