عندما يسيطر الخطاب المذهبي على الاجتماع الانساني , حيث أنك أنى إتجتَ أو مكثتَ , لا تسمع إلا حوارا ونقاشا مذهبيا , وكلُّ يبرّء نسفه ويتهم الآخر , وكل فريق يُبدي تخوفه من الاخر , يكون هذا مؤشرا واضحا على المستوى المتدني من الوعي الذي وصلت اليه المجتمعات الاسلامية , ويدل على فوضى في الثقافة المذهبية حيث تلاحظ وانت تسمع النقاشات كيف يطلق المتحاورون مفاهيم دينية وتعاليم دينية مدعومة براويات منسوبة الى النبي (ص) أو منسوبة إلى أحد أئمة أهل البيت (ع) , مع تحميلها صفة الصحيحة والتركيز على أنها متواترة , ولا رقيب ولا حسيب على هذه الثقافة , وبالتالي تُكرّس على أنها أدلة ثابتة على مفاهيم دينية , وللأسف لا هي ثايتة ولا المفاهيم صحيحة .
نفس الفوضى ونفس الطريقة في العشوائية وعدم إحترام قواعد العلم , عند الخطباء المذهبيين , حيث تراهم يعتلون المنابر ويبثون مفاهيم منسوبة الى الدين وهي ليست من الدين في شيء , ويطلقون الاخبار والروايات ويكذبون على الله وعلى رسوله وعلى السلف الصالح بجرأة غير مسبوقة , ولم يعرف لها مثيل في السياقات التاريخية المعروفة , إذ أنه إشتهر عند علماء الدين تاريخيا ما يسمى " إجازة في الرواية " بمعنى أنه لم يكن مسموحا في سيرة العلماء القدماء نقل الرواية إلا من شخص مُجاز بنقلها , بعد أن يكون قد أتم تحصيل علم الرجال والدراية , وشيئا من العلم يسمح له بذلك.
وقد ساعد على هذه الفوضى في نشر الروايات المنسوبة الى النبي (ص) أو أحد الائمة (ع) أو الى عالِم معين , وسائل التواصل الالكترونية الحديثة التي تسمح لأي شخص في العالم أن ينشر ما يحلو له , هذه الوسائل أصبحت في متناول كل الناس من مسلمين وغير مسلمين , وأصبح باستطاعة أي جهة أو فرد أو حزب أو نظام أو أو ....أن يبُثّ أكاذيب مخلوطة بشئ من الصحة والصدق , ويشوش بذلك عقول الناس وخاصة عوام الناس التي ليس لها حظٌ من العلم كي تميّز به بين الحق والباطل .
حصل في تاريخنا الاسلامي ما يشبه ذلك , ولكن كان مسيطرا عليها , لأن الذي قام بفعل ذلك كان محصورا بالسلطة السياسية آنذاك وبأتباعها المحصورين بأسماء محددة , أما اليوم في هذا الزمن الفوضوي القضية ليست محصورة بسلطة واحدة ولا بأشخاص معروفين , بل كل مَن شاء يستطيع أن يؤلف ويبثَ وينشر , والقابليات المذهبية جاهزة لإستقبال وقبول كل شيء , وخاصة في مرحلة الهياج المذهبي الذي يمنع العقل من دوره ويعطله ويتهمه بالتقصير .
يواجه المفكرون الاسلاميون اليوم هذه المعضلة بصعوبة كبيرة , ويحاول المعتدلون منهم مع كل الظروف الصعبة المحيطة بهم , إيجاد مخرج للأزمة المستفحلة بين الايمان والسياسة والسلطة , وبرز منهم على الساحة اللبنانية السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين بعد السيد موسى الصدر والشيخ حسن خالد والشيخ عبدالله العلايلي وأدلو بدولهم وبجرأة كبيرة , إلا أنهم إصطدموا بجدار التعصب المذهبي الذي حال بينهم وبين إكمال الطريق , ولكن قد زرعوا بذرة مهمة , وخلقوا أسألة وإشكاليات وحركوا الرواكد من المسلمات الباطلة في الساحة المذهبية , ولو تسنى لهم ولأمثالهم ظروف أخرى لكنا بأحسن مما عليه نحن الان .
قد ذكرنا أسماء بعض العلماء المفكرين على سبيل المثال وليس الحصر , لأن هناك الكثير غيرهم من أصحاب الهمة العالية والاخلاص الجدي , ويمكلون الغيرة على الاسلام والمسلمين .