يشكّل الحراك السياسي تحوّلاً جوهريّاً لا يمكن تجاهل إيقاعاته، لكنّه لم يبلغ بعد مبلغ التصدّي للأزمة المصيريّة الكيانيّة الوجوديّة الضاغطة، لأنّ الاختيار صعبٌ بين أن تكون المواجهة عبر الدولة وما تبقّى من مؤسسات فاعلة، أو عبر الفاعليات وما أحدَثته من مربّعات مذهبيّة لها حيثياتها الأمنيّة والاقتصاديّة.

أيّاً يكن الخيار، هناك ضمور في المبادرة، فالدولة التي تريد الجيش قويّاً منيعاً، ولا تستطيع منحَ الضبّاط سيوفَهم في الأوّل من آب، هي دولة مشكوك بطبعها، وطبيعتها، وصدقيتها. والدولة التي لا تستطيع منحَ طلّابها شهادات، وتكتفي بمنحِهم إفادات، هي دولة معطوبة تحتاج إلى إعادة تأهيل.

ولا ينبغي التوسّع في الحديث عن الأزمات المطلبيّة المُحقّة، ولا عن الخدمات التي تتراجع، ولا عن العلاقة التي باتت إستنسابيّة ما بين المواطن والقانون.

إنطلاقاً من هذا الواقع المزري، يرى بعض سفراء المجموعة الدوليّة لدعم لبنان أنّ الخطر «الداعشي» هو النتيجة لا السبب، أمّا المقدّمات التي أدّت الى هذه النتيجة فتعود الى أزمة الأحجام والأوزان، إذ يتوجّب على أمراء الطوائف والمذاهب الإقرار بأنّ الأزمة الوجوديّة - المصيريّة بدأت عندما اقتنع البعض مخيَّراً أو مسيّراً، بأنّه أكبر من الدولة، وحجمه أكبر من لبنان، ومن نظامه وصيغته، وعندما ذهب بعيداً، ووجدَ أنّ الكلفة عالية، والمستقبل مجهول، عاد يستغيث ويستنهض حالة وطنيّة.

والأزمة الوجوديّة - المصيريّة كانت دائماً ماثلة، ومنذ الاستقلال، ذلك أنّ أمَراء الطوائف والمذاهب والأحزاب، اتّفقوا - وعلى رغم خلافاتهم - على الدولة البقرة الحلوب، وليس على بناء الدولة القويّة القادرة والعادلة، وقد سئمَ المجتمع الدولي هذه المعادلة، لأنّ الأزمات الدامية التي مرّ بها لبنان منذ ثورة 1958، وحتى يومنا هذا، كانت تقوم على تسويات تتوافق ومصالح الأمراء، على حساب مصالح الدولة، والغالبية القصوى من المواطنين.

والأزمة الوجوديّة - المصيريّة هي نتاج الفكر السياسي الذي يتحكّم بالقرارات والمقدّرات، والدليل أنّ قوانين الإنتخابات التي وُضعت منذ الإستقلال حتى اليوم كانت لخدمة الفساد تحت شعار العمل على مكافحته، ولترسيخ المذهبيّة والفئويّة والطائفيّة تحت شعار العمل على محاربتها. لقد حوّلوا الدولة نادياً تلتقي تحت قبَّته الطبقة النافذة المتحكّمة، لتمرير مصالحها، على حساب المواطنين، كون النظرة إليهم، أنّهم مجرّد أتباع.

وبدأت الأزمة الوجوديّة - المصيريّة ترتقي سلّمَ التحدّي عندما بدأ الحديث عن البيئات الحاضنة، والمربّعات الأمنيّة خارج سلطة الدولة، وكأنّه حديث طبيعي عادي، أو نوع من الترف السياسي.

وفي ظلّ هذه البيئات الحاضنة تمّ إستقبال مليون ونصف مليون نازح سوري، واستثمار وضعهم الإنساني في بنك الأهداف الذي يملكه أمراء الطوائف، والمعزّز برصيد كبير من الكيديات والمذهبيات والمزايدات لتناتش ما تبقّى في ضرع الدولة - البقرة الحلوب.

وعندما بدأت بيئات النزوح الجديدة تُفاقِم خطرَ التغيير الديموغرافي، أصبحَت الأزمة الوجوديّة - المصيريّة تستأثر بإهتمامات المواطن العادي الذي وجَد أنّ المنافسة تشمل كلّ شيء تقريباً، منافسة على لقمة العيش، والسكن، والطبابة، والمدرسة، والمهن اليدويّة... أمّا الأرقام التقديريّة فلا ترحم، فبالإضافة الى ملايين النازحين، هناك نصف مليون فلسطيني، ونصف مليون من متعدّدي الجنسيات، مقابل أربعة ملايين لبناني منقسمين، مختلفين على كلّ شيء، يبيعون الأرض، ويدفعون بالشباب نحو الهجرة.

وفي ظلّ هذا الواقع، يطرق الخطر «الداعشي» أبواب الوطن إنطلاقاً من عرسال، وجاءت نتائج الجولة الأولى جيّدة في مكان ومخيّبة في مكان آخر. وفي ظلّ هذا الواقع يطرح الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله الصوت عالياً، لكنّ الصدّى كان مخيّباً، وبعض الدول المعنية بدعم لبنان، ترى أنّ «الصوت قد صدر عن أقلّية مذهبيّة، تنظر إليها الأقليات الأخرى، أو بعضها، على أنّها المسبّب الأكبر في دفع لبنان نحو الأزمة الوجوديّة المصيريّة، لأنّها خرجت على الإجماع الوطني، وتصرّفَت ولا تزال، على أنّها أكبر من الدولة، وأقوى من كلّ الشركاء في الوطن».