بات ملحّاً البحث عن الأسباب التي جعلت التيار الديني الأصولي المعاصر يتحوّل إلى كائنات همجيّة في العديد من البلدان العربية والمسلمة ومنها في قلب العالم العربي. مذابح، إرهاب، استئصال، تنكيل... حتى ليبدو العالم المسلم اليوم مكاناً لأبشع صور انهيارات الدول والمجتمعات.
من بين ركام هذه الهمجية المنبعثة من عالمنا نحن المسلمين تظهر بعض الأسئلة في وسائل التواصل الاجتماعي من شباب مسلمين تدل على إمكان ولادة نقد جريء لتجليات الفكر الإسلامي وتجربته في العصور الحديثة سبق أن قمعته الحركات الأصولية السنية والشيعية، خصوصاً منذ نهاية سبعينات القرن العشرين، ومنعت تطويره. لكن أسئلة هؤلاء الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي تتميّز أيضاً بتشكيك حاد بسياسات الدول الغربية حيال المنطقة واستفادتها من التوحّش الأصولي. سبق لمفكٓري القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين أن طرحوا نقدا جريئاً للفكر الديني، وأهمهم طه حسين، لكن مسار الأحداث من تأسيس إسرائيل إلى الثورة الإيرانية والحرب الأفغانية جعل هذا الخط النقدي لا يتضاءل فحسب بل ينهزم تماماً لولا بعض المحاولات الفردية المحدودة. أكثر من ذلك... فإن الإسلام المعتدل تجسّد على المستوى السياسي بالأنظمة الليبرالية التي كانت تقودها بورجوازيات متنوّرة في مصر وسوريا والعراق في النصف الأول من القرن العشرين، جميع هذه الأنظمة انطلقت من بداية دستورية لاسيما مصر حيث تزاوجت الفكرة الدستورية مع الفكرة الوطنية... كل ذلك بدأ يتلاشى مع تأسيس إسرائيل لصالح "أصولية" قومية عربية ولدت عبر الجيوش الوطنية من رحم مشروع المواجهة مع إسرائيل. ليست إسرائيل هي طبعاً وحدها المسؤولة عن بدء غياب الإسلام المعتدل ولكنها كانت الأساس لضيق جوهري في المساحة التسامحية في السياسة العربية.
لقد تربصت الأصولية الدينية طويلاً بالقومية العلمانية حتى نجحت إما بإسقاطها وإما بإفساد استقرارها. في مصر بين الناصرية و"الإخوان المسلمين" وفي سوريا لاحقاً بين "البعث" و"الإخوان المسلمين" وفي العراق بين البعث والأصولية الشيعية ممثلة بـ"حزب الدعوة".
"داعش" هي آخر وأقوى إنتاج للهمجية باسم الإسلام. سبقتها "النصرة" و"طالبان" و "بوكو حرام" و"التكفير والهجرة" وغيرها.
ليهنأ أعداء هذه المنطقة: لقد نجحوا أو "نجح" العالم المسلم في تقديم صورة ملموسة عن نفسه باعتباره مكانا شاسعاً لكل أنواع الهمجية. تبدو الصورة وكأنه الانهيار الأخير للإسلام. النتيجة المريعة من فشل محاولات مصلحين ومفكرين مسلمين للتكيّف مع الحداثة الغربية على مدى قرنين.
آن الأوان في الحقيقة لطرح كل مسألة الإسلام الأصولي على بساط البحث وإعادة تقييم نتائجها المدمرة على المجتمعات العربية، الأصولية بوجهي مفارقتها المعقدة: بنيتها الفكرية المعادية للغرب ودورها الدائم والمشبوه في الارتباط بالغرب منذ بدأ العصر النفطي السياسي حتى هاوية الوحل الهمجية الراهنة في سوريا والعراق وليبيا.
صحيح أن الواقعية السياسية تجعل كثيرين اليوم يفاضلون بين أصولية وأصولية أقل تطرفاً، غير أن جوهر المسألة هو بحث كل الفكر الأصولي المسيطر على صورة الإسلام.
وسط هذا المشهد الهمجي في سوريا والعراق وليبيا ونيجيريا وباكستان لا تزال بعض البيئات مصدراً لـ"الأخبار الجيدة" مثل تركيا وتونس ومصر وأوساط واسعة من النخب السياسية والثقافية والحركات الشبابيّة العربية الرافضة للأصولية المتطرفة. البيئة التركية تحديداً لا تزال واحةً لنوع من إسلام منشغل بامتلاك أدواته العصرية الحديثة. لكن المحزن هو كيف يستطيع قائد هذه التجربة في العقد المنصرم رجب طيّب أردوغان أن يشارك بشكلٍ ما في انفلاش أصولية متوحشة مثل "داعش" وغيرها على أمل الحصول على مكاسب جيبوليتيكية في ولايات عثمانية سابقة هي سوريا والعراق؟ السؤال الموجّٓه له شخصيا هو: هل يعتقد فعلاً أن مصالح تركيا الدولة المتمدّنة يمكن لها أن تتحقق مع قوى همجية من هذا النوع من المفترض أن تركيا تمثّل الإسلام النقيض لها؟
من يتذكّر "الربيع العربي"؟! مؤسسة ثقافية نيوزيلاندية كانت تحضّر منذ أقل من عشرة أشهر لمعرض فني تحت عنوان"الشتاء العربي".