بســام، أستاذ المدرسة في بلدة اللبوة فـــي البقاع اللبناني، التي تقع على مدخـــل بلدة عرسال قال إن «مؤامرة» حيكت علـــى الجيش اللبناني أفضت إلى انسحاب المسلحين ومعهم الجنود المختطفون من بلدة عرسال. وتساءل: «كيف سمحوا لهم بذلك، فالمعركة لم تكن مستحيلة والمسلحون كانوا محاصرين وكان في الإمكان القضاء عليهم وتحرير الجنود». سكان اللبوة وسكان الـقرى الشيعية المجاورة لها كانوا يرغبون في أن يتولى الجيش اللبناني القضاء على المسلحين، ومثّل فتح طريق انسحاب للجماعات التي غزت عرسال وأسرت الجنود بالنسبة إلى هؤلاء السكان، مؤشراً إلى أن ثمة واقعاً بدأ يتغير. فـــأن يُخطف جنود للجيش، وأن يُتيح الجيش للمختطفين الانسحاب، لا سيما أن الخاطفين هم من تنظيمي «داعش» و«جبهــة النصرة» فإن معادلة أملتها وقائع ثقيلة بدأت تنعقد على الحدود اللبنانية - السورية، هناك حيث يُقاتل «حزب الله» خلف الحدود اللبنانية، وحيث أطلت «جبهة النصرة» وشبيهها «داعش» إلى خلف الحدود السورية، معلنة افتتاح زمن جديد.
بدأت الديموغرافيا تتحول إلى سياسة، هذه الحقيقة تُلح على البقاعيين الشيعة بعد معركة عرسال. فعدد اللاجئين السوريين في البقاعين الشرقي والشمالي قد يفوق عدد السكان اللبنانيين في هذه المناطق. هذا الواقع بدأ يفعل فعله. الجيش لم يدخل إلى عرسال لإنقاذ جنوده، لأن البلدة تضم عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، إضافة إلى أهلها الذين يفوق عددهم الثلاثين ألفاً. الأثمان ستكون باهظة، ولا أحد يملك القدرة على تحملها. إنها المرة الأولى التي يواجه فيها البقاعيون هذه الحقيقة، فمعركة عرسال كشفت ما كان يؤجل اللبنانيون مواجهته. هذا من جهة، لكن من جهة أخرى فإن «داعش» وصل إلى حدود بلدة اللبوة الشيعية. مئات قليلة من الأمتار تفصل بين مهنية عرسال التي احتلها «داعش» وبين خراج بلدة اللبوة. جرى ذلك بالتزامن مع السقوط السهل لمدينة الموصل العراقية في يد التنظيم الإرهابي. ولهذه الحقائق وقع ثقيل في الوعي المذهبي الناشط هذه الأيام.
أحمد، اللاجئ السوري إلى بلدة عرسال، وقف في دكانه على طرف المخيم الذي احترقت نصف خيمه بفعل قذيفة أطلقها الجيش اللبناني في المعركة الأخيرة، وقال إن المسلحين الذين قدموا فجأة من الجرد، هم من أطلق الرصاص على موقع الجيش على التلة المقابلة. وهو كان يقول ذلك لا ليشير إلى أن المسلحين هم من بادر إلى إطلاق الرصاص ما تسبب بحرق المخيم، بل ليلفت إلى أنهم جاؤوا من خارج المخيم، ذاك أن عرساليين كثراً راحوا يلومون اللاجئين على خروج مسلحين من مخيماتهم لمناصرة المجموعات التي نزلت من الجرد واحتلت البلدة واختطفت عناصر من الجيش اللبناني على نحو سهل ورشيق. وأحمد هو من بلدة القصير السورية التي يقيم في عرسال أكثر من 80 في المئة من أهلها الذين غادروها بعد دخول «حزب الله» إليها.
حين يروي أهل عرسال وقائع ما جرى في بلدتهم، يُشعرونك بأنهم يُبَطِِِِئون جريان المشاهد المستعادة. يؤشر لك الرجل إلى طريق ترابي موازٍ لطريق آخر غير ترابي ويفصل بينهما مسافة أقل من مئة متر، ويقول: «من ذاك الطريق الترابي دخل المسلحون، وعلى ذاك الموازي له موقع الجيش اللبناني. وصل المسلحون فشاهدتهم وأبلغت الجيش. بقي الجنود في مواقعهم من دون أن يأخذوا وضعيات قتالية. وصل المسلحون وكان عددهم أقل من عدد عناصر الجيش واعتقلوهم». لا عنصر مفاجأة في الرواية، ولا مشاهدة مشوقة، على رغم أن ما جرى ينطوي على بعد مشهدي مذهل.
فالطرق الموازية، المؤدية إلى الجرد حين تنظر إليها من شرفة منزل العائلة العرسالية في الحي الشرقي من البلدة، تعترضها تلال تعود بعدها لتفضي إلى مزيد من التلال، ويشبه قطع التلال الطرق ثم إرسالها إلى مزيد من التلال، المتاهة البصرية، فجرد عرسال تبلغ مساحته حوالى 5 في المئة من مساحة لبنان. وهي مساحة مكثفة بالحكايات عن المقاتلين وعن «داعش» وعن «حزب الله» وعن التهريب وعن بساتين الكرز والمشمش. ومن بين تلال هذا الجرد قدم مسلحو «النصرة» و«داعش» واختطفوا الجنود، ثم عادوا إلى خلف التلال.
هناك منطقة في وعي العرسالي لا يمكن استكشافها. إنها الجرد. فهؤلاء السكان يعيشون في بلدتهم الكبيرة هذه. يعملون في الزراعة وفي الكسارات وفي التهريب، ويقيمون علاقات متفاوتة مع جيرانهم الشيعة ومع جيرانهم السوريين. لكل هذه الوقائع صور أو احتمالات صور يمكنك أن تتخيلها، أما هذا الجرد الكبير والهائل والحاضر والذي يربط وجداناتهم، فيصعب عليك ضمه إلى صورتهم المتخيلة. حين تشير لك المرأة إلى الطريق التي قَدم منها المسلحون والتي تعرفها هي جيداً، يصعب عليك تخيلها عابرة عليها.
اختُطـــف الجـــنود من البلدة وسيقوا إلى الجرد، أو إلى المقلب السوري من الجرد. إلى تلك المســـاحة غير المستكشفة من وعي العراسلة. حيث الغموض يُخيم على المـــعارك الدائـــرة بين «حزب الله» وبين المــسلحين السوريين المناوئين للنظام ومن بينهم تنظيما «النصرة» و«داعش».
والعراسلة يشعرون أيضاً بأن بلدتهم نجت من كارثة، فاحتمال الحرب كان كبيراً، وما أقدمت عليه الجماعات التي غزت البلدة كان سيجر عليها كارثة لولا رئيس الحكومة تمام سلام على ما قال لـ «الحياة» نائب رئيس البلدية أحمد الفليطي. وفي تفسيرهم ما جرى تتقاطع في روايات العراسلة المختلفة حكاية المؤامرة التي حاكها «حزب الله» للبلدة والتي أوقع الجيش فيها، لكنهم هذه المرة أضافوا إلى حكاياتهم مراراتهم من الفصائل السورية التي احتلت عرسال. فالبلدة ومنذ أكثر من ثلاث سنوات مُسخرة بكاملها لاستقبال اللاجئين، وأن تُكافأ بأن يُستدرج الجيش إلى معركة فيها، فإن ذهولاً وخيبة كبيرين أصابا السكان. كل من تلتقيهم من أهل عرسال يشهرون عتباً على اللاجئين وعلى الفصائل المقاتلة في القلمون، فـ «غزوة عرسال» دقت إسفيناًً خلّف جرحاً لن يلتئم قبل عودة الجنود المختطفين كما قال الفليطي، وأشار إلى أن «هناك اثنين من أهل البلدة قتلهما المسلحون السوريون، وتنظيم «داعش» تحديداً وهذا دم وليس ماء».
وعرسال مزنرة بمخيمات اللاجئين السوريين، فالبلدة الواقعة على منخفض بين تلال تحيطها من كل الجهات، تضم أكثر من 80 مخيماً للاجئين، وإذا كان العدد الرسمي لهؤلاء وهو 124 ألف لاجئ مبالغاً به، فإن الرقم الواقعي لا يقل عن 80 ألفاً، وهو طبعاً ثلاثة أضعاف عدد السكان الأصليين.
يحسم العراسلة أن مسلحين من هذه المخيمات التحقوا بالمسلحين الذين نزلوا من الجرد واحتلوا البلدة. منهم من يقول إن الأمر جرى تلقائياً بعد أن عمت إشاعات بأن الجيش السوري و «حزب الله» في طريقهم إلى البلدة فخرجوا من المخيمات بسلاحهم وبدأوا يطلقون الرصاص في غير وجهة، ثم عادوا والتحقوا بالفصائل، وآخرون أشاروا إلى أن للعائلات اللاجئة أبناء يُقاتلون في الجرد، وهؤلاء الأخيرون كانوا من بين الذين غزوا البلدة فالتحق بهم أقاربهم وأشقاؤهم. ويشير العراسلة إلى أن هؤلاء أقلية من بين اللاجئين.
لكن عرسال منشغلة أيضاً بمسألة موازية لمسألة المرارة من الفصائل السورية التي طالما دعمتها، وهي أن عشرات من أبنائها التحقوا أيضاً بـ «جبهة النصرة» حين غزت البلدة، و «النصرة» كانت الفصيل الرئيسي من بين الفصائل التي نزلت من الجرد. وقتل من بين المسلحين خلال اشتباكهم مع الجيش اثنان من أبناء عرسال. لكن ذلك لا يعني أن البلدة استقبلت مسلحي «النصرة» و «داعش»، والذي يجول في البلدة يلمس أن السكان شعروا بأن هؤلاء قدموا غزاة، وأن البلدة لم ترحب بهم، لا بل إن ملامح صدام بينهم وبين السكان كانت بدأت تظهر.
معظم من تلتقيهم في عرسال، يحسمون بأن البلدة عاتبة على اللاجئين السوريين، لكنها لن تحول عتبها صداماً معهم، فالعلاقات بين السكان وبين اللاجئين أمتن من أن يهزها عتب، وهي على كل حال ليست علاقة سكان بلاجئين من الطائفة ذاته والدين عينه فقط، إنما هي علاقة تواصل قديم ولم تقطعه الحدود. وكتب خالد الحجيري وهو مهندس وناشط من عرسال على صفحته على «فايسبوك»: «عرسال، البلدة اللبنانية القابعة بين قمم السلسلة الشرقية، المسلوخة منذ أقل من قرن، عن ولاية دمشق كالكثير غيرها من اﻷراضي اللبنانية، بموجب اتفاقية سايكس - بيكو التي قسمت التركة العثمانية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب الكونية اﻷولى، لا تزال تعاني أوجاع السلخ ذلك، وما تبعه من هوية مستجدة وضعت الكثير من المناطق اللبنانية الطرفية في أسفل درجات السلم الذي اعتمده عرابو دولة لبنان الكبير» .
وإشارة خالد إلى «سلخ عرسال» عن امتدادها الطبيعي، تُفضي أيضاً إلى أن البلدة في استقبالها اللاجئين تستأنف مهمة كانت انقطعت عنها منذ نشوء لبنان الكبير. وكان إلغاء الحدود فرصتها لاستئناف ما انقطع بفعل انضمامها إلى الكيان المستجد. وهو أمر يُضعف احتمال الصدام بين سكانها وبين اللاجئين بفعل غزوة فصائل سورية وتكفيرية البلدة.
كما أن ما لفت إليه خالد لجهة أن البلدة في «أسفل سلم أولويات الدولة اللبنانية» لا يتجلى في عرسال فقراً وإهمالاً، إنما أيضاً في جعلها خارج حسابات أخرى. فعرسال على رغم طرفيتها، ليست بلدة فقيرة، ومواردها هي الزراعة والتهريب ومقالع الحجارة. الزراعة اليوم شبه منعدمة بفعل القتال في الجرود، وكذلك التهريب، وبقي حوالى 500 مئة مقلع حجارة وكسارة تعمل على قضم الجبال وتحويلها غباراً، ولبنان الذي سبق أن شـــهد معـــارك سياسية أفضت إلى منع هذه الكسارات من العمل في مناطق الجبل، سمح لها في عرسال أن تعمل، ذاك أن الجبال هناك بعيدة عن وجدانه وعن رغبته في حماية هذه الجرود التي ألحقت به.
حوالى نصف سكان منطقة القلمون السورية يقيم اليوم في عرسال، إضافة إلى 80 في المئة من أهل بلدة القصير، فضلاً عن لاجئين من حمص وريفها. وجميع هؤلاء هم من السوريين المعادين للنظام والذين لن يعود معظمهم إلا بعد سقوطه. وعرسال إذ استقبلتهم، فهي فعلت ذلك مستأنفة علاقات «ما قبل لبنانية» معهم، و «حزب الله» في وعيهم هو جزء من النظام الذي يُعادونه. فروايات كثيرة ينقلها هؤلاء اللاجئون عن الحزب وعن مقاتليه في بلداتهم السورية، وهم من مخيماتهم في عرسال يسمعون أصوات المدافع في الجرود القريبة والبعيدة.
واللاجئون السوريون في عرسال يُمسكون بمشهد البلدة، على رغم أن هناك فصلاً نظرياً في الإقامة بينهم وبين أهل البلدة. الدراجات النارية الصينية الصنع التي استقدمها اللاجئون معهم من بلداتهم تذرع طرقات البلدة وحواريها حاملة عائلات بأكملها. والنساء السوريات المنقبات حاملات أطفالهن أيضاً. وهي مشاهد لم يُعكر صفوها اضطراب العلاقة بين العراسلة وبين الفصائل السورية التي غزت البلدة.
ليس لعرسال صوت واحد يروي ما جرى في البلدة، لكن الجميع يتحدث عن المسلحين بصفتهم غزاة، وهم مذهولون من السهولة التي سقطت فيها البلدة بأيديهم. صحيح أن مرد ذهولهم هو أن ثمة من لم يُقابل معروفهم بمثله، لكن أيضاً شعورهم بأن معادلة جديدة فرضتها واقعة غزو البلدة. فلم يعودوا وحدهم من يملك زمام المبادرة في عرسال. أكثر من مئة ألف لاجئ لن يكونوا بعد اليوم خارج المعادلة المحلية. ويبدو أن المفاوضات التي تخوضها هيئة العلماء المسلمين مع «النصرة» لإطلاق المخطوفين، يتولى الجانب العملي منها عراسلة من وجهاء البلدة، ويشارك فيها ممثلون عن اللاجئين ممن يعتقدون أنه يجب رد الجميل للعراسلة. وكل هذه الوقائع تُشعرك بأن المنطقة كلها صارت جزءاً من الحرب التي تجري في القلمون.
عرسال تشعر بأنها نجت من احتمال معركة كانت ستؤدي إلى دمارها، وجوارها الشيعي يشعر بأن معادلة الصراع تغيرت، وأن ما جرى في عرسال هو نموذج مصغر لما جرى في الموصل، على رغم أن المسلحين انسحبوا من البلدة. العراسلة يقولون إن أقل من 300 مسلح دخلوا البلدة في ذلك اليوم، وأهل الجوار يقولون إنهم أكثر من 6 آلاف مسلح، وإن مئات من العراسلة كانوا من بينهم. وحدات الجيش استعادت مواقعها في محيط البلدة من دون تغيير كبير على الوضع الذي كانت عليه قبل سقوط البلدة بيد المسلحين.
حازم الامين \ الحياة