لم يدخل إلى الآن في ثقافتنا مفهوم النقد , بل لم يتبلور بصورة واضحة وخاصة في بعديه السياسي والاجتماعي , وعدم دخوله وبلورته ليس عائدا إلى غربته عن المصطلحات الاسلامية والاجتماعية والسياسية , بل سبب غيابه هو خوف السياسيين منه , وعدم قدرة أصحاب السلطة أستيعاب هذا المصطلح لما له من قدرة وخطورة على هزّ عروشهم وعلى فضح قداستهم المزورة , وما خوفهم منه الا دليلا على إستبدادهم وظلمهم وإمساكهم بزمام السلطة بغير حق .
يُذكر أن مصطلح النقد رادفه في تاريخنا الاسلامي مصطلح الجرح والتعديل , وأُسس علم خاص بالنقد أطلق عليه ( علم الجرح والتعديل ) , وكانت من أهم أهدافه مراقبة نقل التشريع بطريقة صحيحة لا تزوير فيها , والحفاظ على التنزيل ونقله للناس عبر ألسن صادقة لا تعرف الكذب .
قد يعترض البعض ويقول إن النقد قد يكون هدّاما , وممارسته فيها هتك للحرمات وتشهير بالناس .
نعم إن هذا الكلام صحيح ولكن نقول إن النقد أو الجرح والتعديل قد يكونا هدامين وقد يكونا بنّائين أيضا , فلذلك لا بد من تحديد معيار لهاتين الصفتين للنقد ( أي الهدم والبناء ) , فمن الواضح أن التشهير بالامور الشخصية وهتك الحرمات ومتابعة عثرات الناس الشخصية وأمثال ذلك يدخل في دائرة النقد الهدام الذي حرّمه الله ومنه حفاظا على كرامة الناس وعلى حرية الناس الشخصية , وأما متابعة ومراقبة ونقد وتعديل وتجريح الامور العامة كأن يراقب مَن يعمل في الحقل العام , ومَنْ يستلم السلطة ويعمل في شؤون الناس , إجتماعيا وإقتصاديا وسياسيا , فهذا النقد هو نقد بناء وظاهرة صحية في المجتمعات الانسانية التي تريد أن تصل الى هدف التشريع الذي هو العدالة والمساواة , وإن كان مرّا ولاذعا وقاسيا في بعض حالاته , وما أستدل به البعض على منع النقد من خلال الحديث المأثور القائل : " مَن وعظ أخاه سرا فقد زانه ونصحه , ومَنْ وعظه علانية فقد شانه وفضحه " , فإن هذا الحديث مع أننا لم نجد له قائلا , فهو يتعلق بالامور الشخصية التي ذكرناها , حيث أنه لا يصح التشهير بأمر شخصي لأحد , بل مَن اراد توجيه نصيحة لأحد في أمر شخصي فعليه أن يوجهها له سرا , ولا يدل الحديث على عدم نقد أحد في الامور العامة , بدليل أن الناس لا تستطيع الوصول الى صاحب السلطة لتوجيه النقد له , وأيضا صاحب السلطة مسؤول أمام الله والناس , ليس فقط أمام الله , ففي هذا السياق قد هاجم العلامة الشهيد مطهري بعض الموروث الديني الذي ينظّر للإستبداد ويبرر ثقافة الطاعة المطلقة ويسبغ الشرعية النظريات التي تلبّست لباس الدين والقدسية باسم الله , وإدّعت أن الحاكم مسؤول أمام الله فقط لا غير , ولا يحق للناس مراقبته ومحاسبته .
إن نقد الفكر الديني والمؤسسات الدينية والاجتماعية وعلماء الدين هو من الضرورات الملحة في الحياة , لأنها تضع كل الناس أمام مسؤولية المراقبة الذاتية , وينبغي على المؤمنين أن يتمسكوا بظاهرة النقد البناء وأن يكونوا مناصرين لهذه الظاهرة , التي من شانها أن تبلور إيمانهم وفكرهم ومشاعرهم .