لا صفقة جاءت بالرئيس سعد الحريري إلى لبنان. هذا مؤكّد. وأساساً يجدر السؤال: صفقة مع مَن... وعلى حساب مَن؟ ولكن يجدر الإعتراف بأنّ وجود الحريري- إذا قرَّر البقاء في لبنان بلا إنقطاع- يمكن أن يُسهّل إبرام التسوية، عندما تنضج ظروفها الإقليمية.
ما حقّق «المعجزة» بعودة الحريري المفاجئة إلى لبنان، هو عينه الذي حقّق «معجزة» التوافق «السحري» والمفاجئ بين «المستقبل» و«حزب الله» ضمن حكومة الرئيس تمام سلام. فالخطوتان كانتا مطلوبتين دولياً، وتحظيان بتغطية إقليمية، تحت عنوان «مواجهة الإرهاب».يومذاك، بدا أنّ لا قدرة على وقف العمليات الإنتحارية في مناطق الشيعة وإحتمال توسُّعها، ومنع فقدان طرابلس، إلّا بتسليم «سنّة الإعتدال» المسؤولية في مواجهة «سنّة التطرُّف». ولذلك تخلّى «حزب الله» طوعاً عن رئاسة الحكومة ووزارات الدفاع والداخلية والعدل والإتصالات لـ«المستقبل» وآخرين.
واليوم، لا قدرةَ على منع وقف تمدُّد «داعش» وفقدان عرسال ووحدة المؤسسات الوطنية إلّا بغطاءٍ من زعيم الإعتدال. ولذلك عاد الحريري بناءً على «كلمة السرّ» الدولية إياها، للتصدّي لثلاثة أخطار مترابطة أظهرتها معركة عرسال، وتُعتبر من الخطوط الحمر:
- بدء إنتقال الحرب السورية عملياً بكامل عناصرها من سوريا إلى لبنان.
- تجاوز «داعش» والجماعات التكفيرية خطوطها الجغرافية المرسومة.
- مواجهة لبنان خطر السقوط الحقيقي نتيجة إندلاع الصراع المذهبي. وفي عبارة أكثر دقة، نتيجةَ إنفجار الوضع السنّي الذي يُحشَر أكثر فأكثر بين كأسين مريرتين: «خلافة داعش» أم «ولاية الفقيه»؟
وهنا، تكفي قراءة المعطيات المحلية المتسارعة، تزامناً مع العودة: إنتهاء معركة عرسال في شكل سريع ومفاجئ، قرار السعودية تقديم هبة المليار دولار للجيش، تكليف الحريري إدارتها، إنتخاب المفتي عبد اللطيف دريان، إجتماع الأقطاب السنّة جميعاً تحت سقف «بيت الوسط» للإستماع إلى الحريري يدعوهم إلى الإعتدال، إستيعاب الرؤوس الحامية مذهبياً داخل تيار «المستقبل»، وتبرُّع الحريري شخصياً لأهالي عرسال بـ15 مليون دولار...
أما في العراق، فالتصدّي لـ«داعش» دفع الأميركيين إلى ضربها عند حدود كردستان، وأتاح أن توافق طهران على تسوية تأتي بخلفٍ لنوري المالكي أقلّ إستفزازاً للسنّة.
إذاً، القوى الدولية هرَعت إلى تدارك كارثة مؤكدة، وطلبت من رئيس تيار «الإعتدال» السنّي، الأقوى شعبياً في طائفته، أن يسارع إلى تطويق النار عن كثب، وفي داخل البيت في الدرجة الأولى. لأنّ أحداً لا يستطيع القيام بهذه المهمة بدلاً منه. وهكذا كان.
ولذلك، إنّ مهمة الحريري ليست تأمين إنتخاب رئيس للجمهورية. فإختيار الرئيس لا يحتاج إلى وجود الحريري في لبنان، وهو ممكن فيما الحريري موجود بين جدّة وباريس. لكن ما يصعب تنفيذه من دون الحريري هو ضبط الوضع السنّي الذي بلغ الإنفجار في عرسال، وتحديداً، ملامح التشقّق في الجسم السنّي، وحتى داخل «المستقبل»، بعدما بدأ يهدِّد وحدة المؤسسات الشرعية.
لقد حضر الحريري كرجل إطفاء لا كمفاوض سياسي، وفي اللحظة التي لم يكن فيها صوتٌ يعلو فوق صوت المعركة. واليوم، توقّف أزيز الرصاص في عرسال، لكنّ أنين الضحايا وذويهم، وذوي المفقودين والمخطوفين، ما زال مسموعاً أكثر من كلام المبادرات السياسية.
وعلى رغم أنّ إنتهاء ولاية المجلس النيابي تشكِّل هاجساً للجميع، فلا تسوية وشيكة في ملف رئاسة الجمهورية. ولكن يجدر تسجيل ملاحظة، وهي أنّ «حزب الله» ربما بات أقلّ رفضاً للحريري في السراي. والأحرى أنه قد يرضى بعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، لكنه لا يحبّذ وصولَ عون إلى بعبدا.
إنها مرحلة تتداخل فيها النسمات الباردة والساخنة. فهل ستتمكّن البيئة السياسية الحاضنة لعودة الحريري من إستيلاد تسوية سياسية- دستورية؟
المواكبون يعتقدون أنّ ذلك ممكنٌ جداً، وقريباً جداً ربما. لكنّ المشكلة تبقى في «شياطين التسويات» التي تستفيق في أيّ لحظة وتنقضُّ على التسويات وتغتالها. وهذه الشياطين تتخفّى، ويصعب تمييزها عن الملائكة أحياناً.