ربما خرج تنظيم «داعش» عن الحدود المرسومة لدوره، وبدأ يلامس الخطوط الحمر في كلّ من العراق ولبنان، معتمداً على فائض القوّة، وعلى الصمت الدولي تجاه إرتكاباته، وعلى الدعم المستمرّ من الدول الراعية.
تؤكد الدوائر الديبلوماسيّة التابعة للمجموعة الدوليّة لدعم لبنان أنّ مَن أنقذ الجيش وعرسال، والسلم الأهلي هو التدخل الأميركي المباشر، وأنّ التسوية ما كانت لتحصل إلّا نتيجة ضغط على الدول المؤثرة في المسلّحين، للإنسحاب والإنكفاء نحو الجبال.وما يحدث مع «داعش» في العراق أكبر وأبعد من طائرات تقصف مواقع تجمّعاته التي تهدّد الأكراد في عاصمتهم وإقليمهم. إنّ التدخل الأميركي الجوّي مجرّد رسالة، عنوانها واضح: «إعادة ترتيب البيت العراقي بالتنسيق والتعاون مع إيران». في المشهد العراقي اليوم إيجابيات كثيرة يمكن إحتسابها، وأولها الإنتقال تدريجاً من دائرة الفساد والرشوة والمحسوبيّة الى دولة الدستور، والمؤسسات.
إنّ إقصاء نوري المالكي عن رئاسة الحكومة ليس بالحدث العادي، إنه رئيس أكبر كتلة نيابيّة، ومع ذلك أبعده رئيس الجمهوريّة فؤاد معصوم، ورشّح مكانه حيدر العبادي بتوافق أميركي - إيراني.
وتنصَّبت في العراق اليوم «سيبة ثلاثيّة» لنظام فدرالي جديد إرتضته كلّ من واشنطن وطهران، بعدما أنجز إستحقاق رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة المجلس النيابي، ورئاسة الحكومة مع ترشيح العبادي، وقد سارع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى التهنئة والمبايعة متمنيّاً على المالكي تدوير زواياه الحادة.
وليس المشهد الأميركي في لبنان على هذا القدر من الشفافيّة التي هو عليها في العراق، ومع ذلك فإنّ الدوائر الديبلوماسيّة المتابعة تتحدّث عن نقاط خمس تبدو البصمات الأميركيّة واضحة عليها، ولا لبس فيها.
أولاً: في عرسال، تدخلت أميركا مباشرة لإنهاء المواجهات والعودة الى الهدوء والإستقرار، والتقارير التي كانت تصل من أرض المعركة الى واشنطن لم تكن مطمئِنة، كان هناك إحتمالات جدّية في إستحداث جبهات داخليّة في طرابلس، وصيدا، وسجن رومية، وعكّار، والبقاع الغربي لإرباك الجيش، وزعزعة الإستقرار الداخلي، وتعميم الفوضى.
ولم ترحم التقارير الجيش اللبناني الذي كان يواجه بأسلحة وإمكانات متواضعة على جبهتين، جبهة عرسال والجوار الملتهب، والجبهة السياسيّة حيث أثبَتت الوقائع وجود فاعليات نيابيّة وسياسيّة وروحيّة تتعاطف مع المسلّحين وشعاراتهم وأهدافهم أكثر من تعاطفها مع المؤسسة العسكريّة، وتضحياتها من أجل وحدة لبنان.
ثانياً: إنّ هبة المليار دولار جاءت كمكرمة من خادم الحرمين الشريفين للجيش اللبناني، لكن بعد التنسيق والتشاور مع الولايات المتحدة، وإستجابة لتمنٍّ ورد سريعاً من الإدارة الأميركيّة الى دوائر القرار في المملكة.
ثالثاً: إنّ الولايات المتحدة مع الإخراج الذي أعدّ لإنقاذ عرسال من دمار محقق، ومن مجزرة كانت ستحصل حتماً، وسيكون لها تداعيات خطيرة على الإستقرار الداخلي، والسلم الأهلي، لكنها ليست مع التفاصيل التي جاءت مجحفة بحقّ المؤسسة العسكريّة، ونالت بعض الشيء من هالتها ومعنويّاتها، خصوصاً ما يتعلّق بملف الأسرى والمفقودين الذي لا يزال مفتوحاً.
رابعاً: إنّ المسألة كانت أبعد من مواجهة بين المؤسسة العسكرية، وسنّة التطرّف، ومعالجتها أيضاً أبعد من تسويات تمرّر بين المؤسسة وسنّة الإعتدال، سواء تمثّل هذا الإعتدال بالسرايا، او في بيت الوسط، او في الوجوه الشابة التي تسعى الى إحتلال مواقع لها في الصف الأول، لذلك تنشّط الولايات المتحدة إتصالاتها مباشرة مع الفاعليات المحليّة، ومع الدول الإقليميّة المؤثّرة، وتحديداً إيران لإستيعاب ما جرى، وبلسمة الجراح بدلاً من السعي الى نكئها.
خامساً: مع عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت، تسعى واشنطن الى قيام «سيبة ثلاثيّة، أميركيّة - سعوديّة - إيرانيّة» لإستحداث «سيبة ثلاثيّة محليّة» عن طريق إنتخاب رئيس للجمهوريّة، وإجراء إنتخابات نيابيّة، وتأليف حكومة إنقاذ وطني تتولّى الإشراف على ورشة إصلاحيّة كبرى في النظام والدستور تتوافق مع المتغيّرات الديموغرافيّة والسياسية التي أصبحت حقيقة قائمة على أرض الواقع.