لم يسبق أن تقدّم مفتي الجمهورية اللبنانية على القيادات السياسية السنية، خلافاً للوضع داخل الجسم الماروني الذي شهد في محطات تاريخية عدة تنافساً وصراعاً وتقدماً للبطريرك على الزعامات المارونية، ولكن على رغم ذلك شكّل انتخاب مفتٍ جديد للجمهورية محطة أساسية داخل الطائفة السنية. لماذا؟
الصعود السياسي الذي عرفه «المستقبل» بعد العام 2005 تراجعَ بفِعل الاستهداف المبرمج لهذا التيار، والذي لم يقتصر على الاغتيالات السياسية، إنما شمل الترهيب بالسلاح في 7 أيار 2008، وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، والأخطر ابتزاز الشارع السني لإخراجه من اعتداله ودفعه عمداً إلى التطرّف باعتباره الوسيلة الوحيدة التي يمكن عبرها إضعاف «المستقبل»، لأنّ الخيار السوري داخل هذه الطائفة أضعف من أن يُعوّل عليه.ولكن بعدما ارتَدّ التطرف على أصحابه، اضطرّ الطرف المستهدِف للحالة السياسية السنية في لبنان إلى تقديم تنازلات إفساحاً في المجال أمام هذه الحالة المعتدلة والوازنة لأن تؤدي دورها السياسي، الأمر الذي يدلّ بوضوح على أنّ هذا الطرف لا يعرف البلد وتوازناته وكيفية إدارته، وأنه يرتكب الخطايا بحق اللبنانيّين ليتّعِظ منها لاحقاً ويعود عنها بعد «خراب البصرة».
وما حصل في لبنان أدركته طهران متأخرة كالعادة في العراق، حيث أنّ التخلي عن نوري المالكي وإبداء الاستعداد لحكومة شراكة وطنية ما كان ليحصل لولا «داعش» وانهيار الوضع العراقي، إلّا أنّ التسوية، ولَو أتت متأخرة، تبقى أفضل من ألّا تأتي أبداً، إنما المهم أن يَتّعِظ أصحاب هذه المشاريع التسلطية بعدم تكرار تجاربهم وانقلاباتهم على الوحدة الوطنية بعد استباب الأمور.
وقد استفاد «المستقبل» من حاجة «حزب الله» إليه لنزع معظم الأوراق التي يمكن أن يستخدمها الحزب في مواجهته. فأعاد الاستقرار إلى صيدا وبيروت وطرابلس، كما أعاد القوى المتطرفة إلى حجمها الطبيعي، واستَردّ السراي الحكومي، ونجح في توزير نهاد المشنوق وأشرف ريفي، وعَطّل بالتكامل والتكافل والتنسيق مع قيادة الجيش اللغم الوطني في عرسال، وقام أخيراً بفكّ الاشتباك مع دار الإفتاء بانتخاب المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان بعد انتهاء ولاية المفتي قباني.
والبارز في انتخابات دار الفتوى الدخول المصري على خط التسوية، ما يعني استعادة القاهرة لدورها الإقليمي من غزة إلى بيروت، كما برزت العودة السياسية للسعودية إلى لبنان مع هِبة المليار دولار وعودة الرئيس سعد الحريري، ما يعني استعادة السنّة لمظلتيهما الاقليميتين، خصوصاً بعد انكفاء مصري طويل بفِعل الثورات التي شهدتها مصر، وانكفاء سعودي إلى الحد الأدنى في المرحلة الأولى بعد أحداث 7 أيار 2008، وفي المرحلة الثانية بعد انقلاب محور الممانعة على اتفاق الـ«سين-سين»، وهذا التطوّر أعادَ التوازن إلى المشهد السياسي في لبنان، لأنّ التوازن الفعلي في الداخل يبدأ من خلال توازن محاور الخارج، الأمر الذي يعني دخول لبنان في مرحلة سياسية جديدة.
ولكن ما تجدر ملاحظته أنه في الوقت الذي تنكفِئ فيه إيران في لبنان والعراق تتقدّم السعودية ومصر في هذين البلدين، وهذا التقدم غير منسّق وليس وليد صفقة سياسية، إنما يعكس دينامية التطورات التي حَتّمت على طهران الانكفاء للحدّ من الأضرار.
فهي اضطرّت في لبنان إلى التراجع عن الانقلاب الحكومي لمصلحة إعادة مفاتيح السراي إلى «المستقبل»، كما التوازن إلى السلطة التنفيذية، واضطرت في العراق إلى التراجع بالتنازل عن نوري المالكي وإعادة الاعتبار للمكوّن السنّي.
وهذا التقاطع غير المباشر بين السعودية وإيران الذي ترجم في بيروت وبغداد يبقى مرحلياً وظرفياً بانتظار التسوية الكبرى، ولكنّ أهميته أنه يمنع التفجير ويُبقي على الاستقرار بالحد الأدنى ويجعل التركيز مُنصبّاً على الأزمة السورية.
صحيح أنّ الأسد ليس المالكي، ولكن مَن يَنكفئ في لبنان والعراق لا بد من أن يتراجع في لحظة معيّنة في سوريا. والواضح أنّ التجربة اللبنانية ستكون النموذج لإدارة هذا التعدد، لأنّ الخيارات الأخرى شبه مستحيلة.
ويبدو أنّ لحظة وصول طهران إلى قناعة باستحالة وضع اليد على لبنان وسوريا والعراق بدأت تقترب نتيجة ثلاثة عوامل: المناعة الداخلية، الدور السعودي الكبير وأخيراً المصري، وقيادة طهران لمشروع مذهبي لا قومي ولا عربي ولا وطني، ما أدى إلى اصطدامه بالحاجز المذهبي السنّي، وتوليد نزاعات من طبيعة مذهبية دَلّت أنّ طهران المتضررة الأولى منها.
وإذا كان تيار «المستقبل» نجح في إقفال معظم الثغرات داخل بيته، وآخرها دار الافتاء، وأدّت عودة الحريري إلى مَد هذا التيار بدينامية وزخم كبيرين، فإنّ التحدي الأساس اليوم يكمن في كيفية استثمار هذا النجاح بمزيد من الفعالية السياسية على مستوى 14 آذار أوّلاً، وعلى المستوى الوطني أولاً وأخيراً.