ثلاثة عناوين مترابطة حَتّمت عودة الرئيس سعد الحريري إلى بيروت: الانفلاش السريع لـ»الدولة الإسلامية» التي تحوّل معها الخطر الأصولي إلى خطر جدي على لبنان، معركة عرسال التي أشّرَت إلى إمكانية امتداد الحرب السورية، و»حزب الله» الذي يشكّل وجوده ودوره الإقليمي سبباً لاستدعاء التطرف واستجلاب الحرب.
اللحظة السياسية التي عاد فيها الحريري إلى لبنان متصلة حصراً بمعركة عرسال، وغير مرتبطة إطلاقاً بأيّ تسوية إقليمية أو ضمانة من أيّ جهة، وهو كان قد أكد، ردّاً على قول العماد ميشال عون إنّ وصوله إلى الرئاسة يشكّل الضمانة لعودته، بأنّ ضمانته الوحيدة هي المؤسسات في لبنان التي جاء خصّيصاً لدعمها وتعزيزها وتقويتها.كما أنّ عودته ليست مرتبطة بالانتخابات النيابية ولا الرئاسية، لأنّ عدم انتخاب رئيس يتحمّله تمَسّك عون بترشيحه في ظل صعوبة الاتفاق على شخصه لجملة اعتبارات وطنية وسياسية، فضلاً عن أنّ الحريري أظهر بأنه قوة تسهيل في هذه الانتخابات. ولكن من دون شك إنّ عودته ستؤدي إلى توليد دينامية محلية وتزخيم الملفات السياسية، إنما من دون أن يكون في الأفق أيّ تسوية جاهزة ومعلّبة.
وأمّا على مستوى الانتخابات النيابية فلا بد من التنويه بجرأة وزير الداخلية نهاد المشنوق وصراحته بالكلام عن الظروف الأمنية التي لا تسمح بإجراء هذه الانتخابات بعيداً عن المزايدات الشعبوية.
فالمعطى الأساس لعودة الحريري هو هذا الترابط المحكم بين الصعود الإسلامي وانتقال الحرب الى لبنان والدور السببي لـ"حزب الله" في هذين العنوانين. فلولا هذا الصعود المفاجئ والكبير وخطورة تمَدد الحرب لَما كانت اتخذت عودته طابع الإلحاح والعجلة، لأنّ المعطى المتصل بالحزب قديم وغير مستجد.
ومن الواضح أنّ استشعار السعودية للخطر الأصولي الذي يتهدد لبنان دفعها إلى إعادة وضعه ضمن أولوياتها، في خطوة تذكّر بدورها في مواجهة "الإخوان المسلمين" في مصر ووضع كل ثقلها لمواجهة هذه الحالة ومَن يدعمها من الولايات المتحدة إلى قطر.
وهذا الخطر نفسه هو الذي دفعها في خطوة استراتيجية أولى إلى تغطية دخول "المستقبل" في الحكومة والتقاطع غير المباشر مع "حزب الله" من أجل التصدي للحالة الأصولية، ما يجعل قرار المشاركة في الحكومة خطوة استراتيجية مفصولة عن أيّ رغبة في الانفتاح على الحزب وإيران، ويتصِل حصراً بعنوانين: تجنيب لبنان السورنة والعرقنة بتحوّل العامل السني الأصولي إلى العنصر المتحكم بمجرى الحياة السياسية في لبنان، والحفاظ على هيكل المؤسسات الدولتية في لبنان.
وأمّا لجهة التقاطع مع "حزب الله" الذي استفاد من رد الهجمات الأصولية عليه، فهو بالنسبة للسعودية مجرد تفصيل، لأنّ الأساس إبقاء لبنان بمنأى عن الصراع السوري، وعدم السماح بتحويل الساحة اللبنانية ساحة جهاد، على رغم صعوبة هذا التحدي في ظل السياسة الإيرانية وتورّط الحزب في سوريا.
فالخطوة الاستراتيجية الثانية إذاً، بعد المشاركة في الحكومة، تمثّلت بقرار الملك عبد الله المثلّث الأضلاع: إعلان رسالته التاريخية ضد الإرهاب، الدعم المباشر والإضافي للمؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية، والعودة السياسية للحريري إلى لبنان، الأمر الذي يضع هذه العودة في سياق مواجهة مثلثة الأبعاد:
البعد الأول، مَد سُنّة الاعتدال بجرعة دعم قوية لإحباط أيّ فتنة مذهبية، والإبقاء على خيارات هذه الطائفة السلمية، وإسقاط أيّ رهان على الحرب والسلاح. ولا شك أنّ تفرّغ "حزب الله" للقتال السوري وحاجته إلى متنفّس حيوي لبيئته اللبنانية جعله بحاجة إلى فك نزاع مع أهل السنّة في لبنان، وبالتالي لا بأس من استغلال هذا الوضع لمنع ايّ احتكاك يَجرّ لبنان إلى الحرب.
البعد الثاني، تقوية المؤسسات اللبنانية وتحييدها، إذ انّ مصلحة "حزب الله" بالابتعاد عن أي احتكاك مع السنّة لا يعني عدم توسّله وسائل أخرى رسمية للقيام بالمهمة والوظيفة التي يأملها.
ومن هنا يؤشّر دعم المؤسسات الأمنية مادياً ومعنوياً إلى مسألتين: رفض مطلق لقيام أي ميليشيا في مواجهة ميليشيا "حزب الله"، حيث أن السعودية لو كانت تريد نقل الحرب الى لبنان كان باستطاعتها بكلّ بساطة تحويل هذه الأموال لإنشاء ميليشيات لمواجهة الحزب، وهذه الأموال كانت أكثر من كافية لإعادة ترسيم الجغرافية اللبنانية على أساس دويلات مذهبية.
والمسألة الثانية الاستثمار الجدي في المؤسسات العسكرية والأمنية بمعزل عن النظرة الأميركية التي تتذرّع برفض تشريع الباب أمام تعزيزها خشية من أن يتمكن "حزب الله" من وضع اليد عليها، لأنّ هذه المؤسسات تعكس صورة لبنان بتنوّعه وتعدديته، الأمر الذي يحول دون وضع اليد عليها في ظل الانقسام العمودي القائم، لا بل هناك حاجة ملحّة واستراتيجية لتقويتها كونها العمود الفقري للسيادة الوطنية. وفي هذا السياق لا بد من التنويه بقائد الجيش العماد جان قهوجي الذي وَفّر بحكمته نهراً من الدماء في عرسال.
البعد الثالث، ربط النزاع مع "حزب الله" من مربّع وطني لا مذهبي، والمشهدية الجامعة لقوى 14 آذار التي تقَصّدَها الرئيس الحريري في اليوم الأول لعودته هي أكبر رسالة بتمسّكه بوحدة الموقف والصف للحركة الاستقلالية، كما تمسّكه بالمواجهة الوطنية والسياسية مع "حزب الله" استكمالاً لمشروع "العبور إلى الدولة".
ويبقى أنّ عودة الحريري تشكّل محطة مفصلية في المواجهة مع الإرهاب، وتعزيز حضور الدولة وربط النزاع مع "حزب الله".