كتب المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله في الوحدة الإسلامية وعمل من أجلها طوال مسيرته التبليغية في النجف ولبنان، وحرص على تقريب وجهات النظر في المسائل الخلافية، وحاول جاهداً استبعاد التراث عن الواقع كمحرك لأدوات الاختلاف، وكشاهد يلقي بظلاله الكثيفة على أمّة مملّعة وممزّقة ومتصدّعة نتاج عناصر كثيرة وفي مقدّمتها العنصر التراثي المذبوح بسكين السلطة منذ وفاة النبي محمد(ص) استرداداً للحالة القبلية المتجذّرة في بنية مجتمع الإسلام الأوّل.
حاضر السيّد في الوحدة الإسلامية وكرّس نفسه حارساً لها، ودفع في أحايين كثيرة ثمناً مكلفاً، أمام الحالات المذهبية المعترضة وبقسوة جاهلية على دوره الريادي والطليعي في خلق فضاء وحدوي تسكنه الأطر المذهبية النابتة في تربة خلافية، حالت دون إعادة تموضع داخل الدائرة الإسلامية، وكرّست تشكيلات متقابلة ومتقاتلة في النص وعلى النص الديني تأكيداً لأحقية في خيارات الصحابة.
في لبنان الطائفي والمحكوم بسقوف مذهبية مضاعفة بشقوق انقسام المسلمين، حفر السيد عميقاً في صخور الوحدة، وجاهد من اجلها كثيراً، وأسّس قنوات حيوية بين النُخب الإسلامية، واستمال إليه عناصر مؤمنة بضرورة الوحدة امتثالاً لأوامر المولى، عزّ وجلّ حيث فتح في كتابه العزيز أكبر مؤسسة إنسانية وهي الوحدة التي ألغت حواجز الفصل بين البشر على قواعد اللون والعرق والنسب والحسب والجاه، في عرض جديد، وحّد فيه الناس على اشتراطات جديدة متصلة بالقول والفعل، أي بالإرادة الفاعلة في مجتمع يتطلب تصحيحاً لمساراته، وإلغاءاً لعناصر الاستعباد والاستخفاف والاستبداد والخنوع والخضوع كآلهات من صنيع التجار وأرباب القوافل من قريش.
بلغ السيد الفتح العظيم والكبير بسعيه الدؤوب إلى وحدة مخففة من حالات الشرذمة المذهبية، ومنح الأمّة واقعاً جديداً ضاقت في مساحاته حسابات الهواجس بين الملل والنحل، وضاعف من احتمالات التمأسس داخل مشروع وحدوي يعيد مجداً، وينتج ممارسة عقلانية تحتشد فيها كل الإمكانيات للذود عن واقع المسلمين المرير نتاج سلطويات إسلامية وأنظمة استبدادية فوّضها الاستكبار والاستعمار مسؤولية تقويض الشعوب وهدم أحلام المستضعفين الذين يكابدون لتصحيح أوضاعهم الاجتماعية والسياسية.
وُصف السيد بأنه إسلامي من قبل أعدائه، في الخارج والداخل، ولم يصفه أحد من الأقربين والأبعدين بأنه، رجل دين شيعي يسعى في حقوله الجهادية كافة لتحقيق مكتسبات طائفية او مذهبية، ولم يشر إليه أحد من المختلفين معه بأنه رمز حالة خاصة او ضيقة، أو أنه كان جهوياً يستخدم الوحدة لبنان مجدٍ لمذهب آمن به.
ومن الصعب قراءة السيد خارج دائرة النبوة أي خارج الوحدة، ومن الصعب إيجاد مفردة خطابية يسكن فيها وهم حقيقة الفرقة الناجية، حتى أن تأثيراته على العقل الإسلاموي ذات طابع وحدوي، داعياً إلى عدم بيع العقل وفي أي قرار فقهي أو سياسي مشترط في ذلك حرية الإنسان وتعاليه عن كل ما هو قيد مجمّد لإمكانيات العقل. لذا يعتبر السيد "ابن رشد" القرن العشرين ومجرّد النهضة العقلية التي اغتالتها دعوات ترك التفكير أو تأجيره لصالح آخرين استهلكتهم نصوص جامدة ومحبطة للعزائم.
ميّزة السيد تكمن في دعوة العقل إلى التحرر ورفض السجن والسجّان معاً، وإلى التجلي في فضاء التفكير دون الارتهان أو الخضوع والخنوع لتجارب سابقة من مسلمين لهم مالهم وعليهم ما عليهم.. لذا تهدف مرحلته التاريخية وعياً إسلامياً لإمكان فيه للبغض والكره ودعوات الموت كما هو واقع المسلمين الكامنين وراء مذاهبهم وطوائفهم وأحزابهم.
تجربة السيّد غنية بمثل الوحدة وقيمها وآدابها وأهدافها ونتائجها المبهرة، وبجيلها المعتدل والمعتمل داخل منظومة العقل.
في ذكراه نستشف معه عبق الوحدة، وندفن معه عطن التاريخ، نتمدّد فيه وننتشر على حوض صراحة لنواجه الواقع الذي حوّل العقل إلى أسير لا يتمتع حتى بحقوق الأسر، فدفع بالأمّة إلى التثاقل مجدداً خدمة لمصالح سياسية تستنزف الإسلام والدين وتزهق الحق.
ولقد شاء الله للسيّد أن يغادرنا قبل مشاهدة ما يجري اليوم بإسم الإسلام، لأنه نقيض حيّ لكل هذه الدعوات الجهادية داخل ساحة الأمة من لبنان إلى اليمن وما بينهما في دار الإسلام السيف. فلقد رحل السيد وفي عينيه وحدة أمة ودولة إنسان
شؤون جنوبية