عرسال 2014 تشبه البارد 2007 أو عبرا 2013، جزئياً، لكنها أعمق وأخطر. ففي البارد، لم تكن الحرب السورية قد إندلعت. وفي عبرا، جرى الحسم «موضعياً» على بوابة الجنوب الشيعي. أما في عرسال، فالحرب لبنانية- سورية متداخلة، أي محلية- إقليمية، بعناصرها جميعاً ورقعتها الجغرافية المنزوعة الحدود... وتحوُّلاتها الحاصلة والمنتظَرة.
لا مجال للهدنة في عرسال. ففي المطلق، الجيش لا يهادن إرهابيين، ولا يفاوضهم، ولا يقع في هذا الفخّ. ولا يجوز للسلطة السياسية أو للسياسيين أن يبنوا حساباتهم في عرسال على المصالح، ولا أن يساوموا على الجيش، كما فعلوا في سبعينات القرن الفائت فخربوا البلد.
ولأنّ لا مجال للهدنة ولا المساومة، فالبديل هو إستمرار الحرب على الإرهاب حتى الحسم تماماً، وإنقاذ عرسال وتنظيف جرودها. وتحقيق هذا الهدف يستغرق وقتاً ويكلِّف الكثير، لأنّ الإرهابيين يأسرون عرسال وأهلها، ولأنّ خطوط الإمداد متوافرة لهم من داخل سوريا.
وتالياً، سيكون من مصلحة لبنان الآتي:
- إما أن يتقدَّم «الجيش السوري الحرّ» في القلمون ويسيطر على مناطق «داعش»، وهذا بات مستحيلاً.
- وإما أن يتقدم جيش النظام السوري ويسيطر عليها، وهذا ممكن. لكن لهذه الخطوة محاذيرها أيضاً، لأنّ إحتدام معارك «داعش» و»النصرة» مع الجيش النظامي قد يؤدّي إلى لجوء الآلاف من التنظيمين عبر الحدود إلى عرسال وجرودها، ما يزيد الوضع تعقيداً.
وفي أيّ حال، قد يكون التصعيد في جبهة القلمون موضوعاً على «أجندة» النظام في هذه المرحلة، وقد لا يكون، لضرورات تكتية. وقد يجد النظام السوري فرصةً لإستثمار حاجة لبنان إلى محاصرة «داعش» في هذه المنطقة، فيطلق عروضه لمساومةٍ سياسية مع لبنان، ينتظرها منذ عام 2005.
ولأنّ قوى دولية فاعلة تدعم لبنان الرسمي ونظام الرئيس بشار الأسد في مواجهة التنظيمات الرديفة لـ»القاعدة»، فإنّ الأسد قد يستفيد من ذلك للمطالبة بإستعادة نوع من الشراكة مع لبنان في «الحرب على الإرهاب». وهذه الشراكة كان إفتقدها الأسد يوم خروجه من لبنان، وهو لم يوفّر سبيلاً لإستعادتها، وربما يجد اليوم مبرّراً لها.
وكانت معلومات وردت من القلمون مفادها أنّ جيش النظام إنسحب طوعاً من مناطق حدودية هناك، بلا مبرِّر. وقيل حينذاك إنّ هدف النظام هو تعطيل إقامة مخيّمات للاجئين فيها. فهل كانت لهذه الخطوة أبعاد تتعلق بمعركة عرسال؟
وفي معزلٍ عن التحوُّلات السورية التي ستُظهرها معركة عرسال، هناك تحوُّلات لبنانية حسّاسة حاصلة أو متوقعة:
1- إنّ القتال هو الأول بين لبنانيين وسوريين على أرض لبنانية، في بلد يأوي مليوناً ونصف المليون سوري. وإن يكن الأمر يتعلق بمجموعات وخلايا محدودة الحجم، فهو يطرح إشكاليات مُهمَّة في ملف اللاجئين.
2- بات «حزب الله» يتفرَّغ للجبهة مع «الإرهاب»، مرحلياً على الأقل، كأولوية طارئة تتقدّم على أيّ مَهمة أخرى.
3- إستطراداً، يبدو «الحزب» اليوم أكبر المستفيدين من القرار 1701، الذي لطالما رفضه. فـ»اليونيفيل» توفِّر عليه عناء الإستنفار جنوباً وتتيح له التفرُّغ لمعاركه الأخرى. ولولا رغبة «الحزب» في الحفاظ على حرية تحرّكه عبر الحدود اللبنانية- السورية، لكانت إلتقت مصلحته مع «14 آذار» في المطالبة بتوسيع دائرة الـ1701 ليشمل تلك المناطق.
4- إنّ المطالبة الداخلية بنزع سلاح «الحزب» كانت في إجازة قبل عرسال، وباتت في عطلة طويلة بعدها. فالنائب وليد جنبلاط يقولها صراحة، لكنّ آخرين يقولونها في الخفاء. وطبيعة التحديات التي تفرزها المعركة جعلت بعض خصوم «الحزب»، داخل «14 آذار»، أقلّ حماسةً لمعاداته.
5- ظهرت السلطة المركزية للمرة الأولى متماسكة حول الجيش والمؤسسات الأمنية، ومعها الطوائف والمذاهب والأحزاب كلها. وهذا يؤشر إلى أنّ لبنان «لن ينفرط»، لكنّ تحوُّلاتٍ ستعصف به.
وبناءً عليه، ثمّة مفاجآت كثيرة منتظَرة في مرحلة ما بعد بعد عرسال. فما يظهر من «جبل عرسال» هو جزءٌ صغيرٌ من الصورة، والباقي على الطريق.