في وداع شهر رمضان، شهر العبادة والصيام، لا بدّ أن نسأل أنفسنا: ماذا استفدنا من هذا الشهر؟ وماذا غيّر في سلوكنا؟ وما هي أهم دروس هذا الشهر؟
لا شكّ أنّ دروس هذا الشهر التربوية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية كثيرة، ويهمّني أن أشير إلى درسٍ من دروسه، وهو درسٌ يتصل بتقديرنا ووعينا لقيمة الزمن، لأننا في شهر "أيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات".
نعمة الزمن
في البدء لا بدّ أن نتعرف على نظرة الإسلام عن الزمن: ما هو مفهوم الزمن في الرؤية الإسلامية؟
والجواب: إنّ الزمن بكلّ فصوله ومقاطعه، سنيه وشهوره، لياليه وأيامه، دقائقه وثوانيه هو وعاءٌ وظرفٌ لحركة الإنسان وكلّ الكائنات، ومؤثر في نموها وتطورها، في حياتها وموتها، فالنهار ـ كمقطع من مقاطع الزمان ـ ميدان للنشاط والعمل، والليل موئلا للراحة والاسترخاء {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً} [الفرقان:47]، وهكذا فإن الزمن بكل مفاصله وفصوله وما يرافقها من تغيرات مناخية وبيئية هو من أهم العناصر المحركة للحياة، ولذا يعتبره القرآن آية من آيات الله عظيمة، قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً} [الإسراء:12]، وقد وقع مورداً للقسم الإلهي، كما في قوله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} [العصر:1-2] والله تعالى عندما يقسم بشيء من مخلوقاته فلغرض التنبيه على عظيم فائدته، وهل أعظم من الزمان نعمة؟!
وإذا كان الزمن نعمة عظيمة فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه علينا: كيف نشغل هذا الزمان ونستثمره؟ وبِمَ نملأه؟ أبعمل الخير وطاعة الرحمن أم بالشر واللهو واتباع الشيطان؟
استثمار الوقت
لا يخفى أنّ الكثيرين منا متمرسون في الهدر، فكما نتقن هدر الأموال، فإننا نتقن هدر الأوقات والأعمار، وهدر العمر هو أخطر بكثير من هدر المال، فالمال يمكن تعويضه، لكن الأعمار لا يمكن تعويضها على الإطلاق، "ما أسرع اليوم من الشهر وما أسرع الشهر في السنة وما أسرع السنة من العمر"، وإننا لمسؤولون يوم القيامة عن هدر العمر كما نسأل عن هدر المال، في الحديث عن رسول الله (ص): "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت(ع)".
إنّ شهر رمضان هو فرصة التفكير، والتفكير هو المدخل الطبيعي للتغيير، ولا بدّ أن يبدأ التغيير بالنفس. فليكن شهر رمضان محطة للتأمل والمحاسبة، وعلينا أن نقوم بـ (جردة حساب) وأن نسأل أنفسنا: ماذا فعلنا في ما مضى؟ أين قصّرنا؟ هل تقدمنا في علم أو عمل أو دين؟ إن المحاسبة ضرورية للتغيير، "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر".
والخطوة الأولى في نجاح عملية المحاسبة هي أن نقدر قيمة الوقت، وما تبقى لنا من عمر، فالعمر رصيد، تماما كما هو الرصيد المالي، والفرق بين الرصيد المالي ورصيد العمر أنّ رصيد المال يمكن أن يزيد كما يمكن أن ينقص، أما رصيد العمر فهو في نقصان دائم ومستمر .
البرنامج الأمثل
ما هو البرنامج الأمثل لاستثمار الوقت؟
أعتقد أن البرنامج الأمثل الذي يمكن اعتماده في سبيل الحفاظ على وتيرة من العمل المرضي لله تعالى هو ما قدّمه لنا الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "اللهم صل على محمد وآل محمد ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي جميع أيامنا لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم واتباع السنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وانتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه وإرشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف". إن كل فقرة من فقرات هذا الدعاء تمثل خطوة عملية في برنامج إدارة الوقت، وإنّ اعتماد هذا البرنامج سيجعلنا في حالة تصاعد وتقدم نحو الأفضل، سواءً على الصعيد العلمي، أو الأخلاقي، أو الروحي، أو الاجتماعي... ومن الخطأ الفادح أن تتساوى أيامنا، فإنّ "من تساوى يوماه فهو مغبون"، وهناك ما هو أسوأ من تساوي اليومين، ألا وهو أن يكون غدنا أسوأ من يومنا، ومستقبلنا أسوأ من حاضرنا، فنكون في حالة تراجع وتردي "من كان غده شر يوميه فهو محروم".
والسؤال:هل نتدارك في ما تبقى لنا من شهر رمضان وفي ما تبقى لنا من عمر ونتطلع إلى المستقبل؟ "واجعل مستقبل أيامي خيراً من ماضيها".
* مدير المعهد الشرعي الإسلامي